تختلف ديناميكيات التسوية السياسية political settlement عن نظيرتها في عمليات بناء السلام Peace building، فغالباً ما تعتمد التسوية على مخرجات الصراع من حيث هياكل موازين القوى بين الأطراف المتصارعة، بينما يعتبر بناء السلام عملية متكاملة للانتقال إلى الاستقرار بما ينطوي عليه ذلك من مظاهر عديدة أبزرها معالجة تداعيات الصراع والحيلولة دون اندلاعه مجدداً، وإعادة الإعمار وبناء مؤسسات الدولة، وتأهيل المجتمعات المتضررة من الصراعات للتعايش السلمي، إلخ.. وفي هذا الإطار هناك عدة إتجاهات تفرق بين عمليتي التسوية وبناء السلام، تختلف بإختلاف المراحل التي يمكن فيها البدء في عملية بناء السلام.
وقد تكون حالة اليمن التي تتناولها هذه الورقة كنموذج لمقاربة التسوية وبناء السلام حالة شديدة التعقيد في هذا السياق، بالنظر إلى أبعاد الأزمة اليمنية وتشابكاتها المحلية والإقليمية والدولية، وفي ضوء المعطيات الخاصة بالحالة اليمنية لا يمكن اعتبار المرحلة الحالية هي مرحلة تسوية يمكن أن تمهد لعملية بناء سلام، وفي الوقت ذاته من الصعوبة بمكان تصور أنه من الممكن القيام بعملية بناء سلام بدون التوصل إلى تسوية، وبالتالي يمكن اعتبار المرحلة الحالية هي مرحلة لإعادة تشكيل الخريطة السياسية في اليمن وفق موازين القوى، ومشروعات القوى المحلية والإقليمية وتوجهات القوى الدولية.
أولاً اتجاهات نظرية متعددة
تختلف وجهات نظر المؤسسات التي تمتلك خبرات في مجال التسوية وبناء السلام من حيث مقاربات التسوية وبناء السلام، ومن أبرز هذه الإتجاهات ما يلي:
الإتجاه الأول: وهو الإتجاه الذي تتبناه الأمم المتحدة، ويتمحور حول أن عملية بناء السلام هي الأوسع والأطول مدى من عملية التسوية أو أي عملية سياسية أخرى، وهي عملية مختلفة أيضاً من حيث الأهداف الرامية إلى معالجة الأسباب الكامنة وراء الصراع للحيلولة دون اندلاعه مجدداً، وتأهيل المجتمعات للإنتقال إلى حالة التعايش السلمي بمشاركة كافة الأطراف المتصارعة و المتضررة من الصراع وتمكين المنظمات غير الحكومية والمؤسسات والمنظمات الدولية، إضافة إلى مهمة إعادة بناء مؤسسات الدولة المختلفة للقيام بدورها الوظيفي بعد إنتهاء دور أدوات القوة في فرض السيطرة والنفوذ[1].
الإتجاه الثاني: وهو الإتجاه الذي تتنباه العديد من المنظمات غير الحكومية، والتي ترى أن عملية بناء السلام لا يشترط أن تبدأ ما بعد وقف إطلاق النار وإطلاق عملية التسوية، وذلك في ضوء الدور الذي تقوم به هذه المنظمات في ساحات الصراعات مثل جهود الإنذار المبكر والاستجابة، ومنع العنف، وحفظ السلام المدني والعسكري، والتدخل العسكري في الحالات المتعلقة بمبدأ المسؤولية عن الحماية، والجوانب المتعلقة بالمساعدات الإنسانية، ودعم إتفاقيات وقف إطلاق النار، وإنشاء مناطق سلام، وتقديم الدعم للمرأة والطفل وتأهيل مجموعات العمل الانساني ومنظمات السلام[2].
الإتجاه الثالث: وهو إتجاه نظري، حيث تشير بعض أدبيات الصراعات إلى أن هناك مرحلة بينية تشكل فاصلاً ما بين عملية التسوية السياسية، وبين عملية بناء السلام، كمرحلة الإنتقال السياسي، لاسيما في حالات الصراعات المستعصية، التي تتدخل فيها الأبعاد المركبة كأزمات الهوية والمعضلات الإقتصادية والإجتماعية، والتدخل الخارجي، وتعدد أنماط الحرب في الصراع الواحد كأن يشمل الصراع المسلح على نمط الحروب الهجينة والحرب بالوكالة[3].
الإتجاه الرابع: ويسلط الضوء على عدم إندلاع الصراع مرة أخرى، حيث تشير “مبادرة بناء السلام” إلى أن الأهداف التي تقوم عليها عملية بناء السلام يفترض أن تمنع اندلاع الصراع من الأساس، ومع ذلك فمن الأهمية بمكان اعتماد برامج بناء السلام لعدم الإنتكاس مرة أخرى والعودة إلى الصراع، حيث تشير المبادرة إلى أن نحو ثلث أو نصف الصراعات تتعرض للإنتكاس، حيث يتجدد العنف المسلح في غضون خمس سنوات تقريباً، و لبناء عملية سلام مستدام ومستقر يتعين تحقيق خمس معايير، وهي: توفير الأمن والنظام العام، وإرساء الإطار السياسي والمؤسسي لسلام طويل الأمد، العدالة الإنتقالية وسيادة القانون، وتقديم التأهيل الإجتماعي وبرامج التعافي النفسي، و إرساء الأسس الاجتماعية والاقتصادية لسلام مستدام[4].
وتفرق بعض أدبيات الصراعات بين برامج بناء السلام في حقب مختلفة، فعلى سبيل المثال في حقبة ما بعد الحرب الباردة أجريت عمليات بناء السلام الليبرالي قسرياً في المجتمعات الأوربية وهي برامج لا تواكب المرحلة الحالية كما قد لا تناسب مجتمعات أخرى، وأصبح هناك مناظير جديدة يتعين نهجها في عملية بناء السلام في المجتمعات المتضررة من النزاعات والصراعات طويلة المدى، وتراعي طبيعة البيئة الثقافية من حيث خصوصيتها الاجتماعية، كما هو حال الصراعات في الشرق الأوسط التي تواجه تحديات هائلة في عملية التحول الديمقراطي على سبيل المثال لا الحصر.
وتمتد هذه المناظير لتشمل التداعيات المباشرة للصراع كتنامي أنشطة التنظيمات الإرهابية، ومعالجة قضايا النزوح واللجوء، والتخلي عن اقتصاديات الحرب، بالإضافة إلى التداعيات غير المباشرة، فتدهور الدولة خلال الصراع انعكس على البنية التحتية، وظهور أمراض وربما أوبئة، فضلاً عن قضايا البيئة في ظل تحولات المناخ وتأثيره على الموارد الطبيعية.
ثانياً: حالة اليمن
لم تشهد الأزمة فى اليمن عملية سلام فعلية خلال فترة الصراع الرئيسية، كانت هناك مبادرات للتسوية السياسية لم يكتب لها النجاح، سواء مبادرات جنيف أو الكويت التي لم تكتمل، أو اتفاق ستوكهلوم الذي وقع دون أن ينفذ فعلياً، حيث تعاملت الحركة الحوثية مع تلك المبادرات على أنها عملية شرعنة لها كطرف سياسي في الأزمة، وعلى التوازي كانت هناك مبادرات مع الجنوبيين ( الرياض 1،2) لم تدخل هي الأخرى حيز التنفيذ، لكنها من نفس زاوية الموقف الحوثي، جرى التعامل معها كشرعنة لوجود القوة السياسية الجنوبية المتمثلة في المجلس الانتقالى الجنوبي مقابل الحكومة الشرعية على الرغم من أن ذلك لم يكن هدف الإتفاقيات، وبالطريقة ذاتها يجري انتاج قوة مماثلة في الجنوب تتمثل في المجلس الحضرمي، وتعكس هذه المسارات أن الاتجاه الرئيسي هو المبادرات الجزئية غير الناضحة، فيما تغيب المبادرات الشاملة التي يمكن أن تطوي الصراع متعدد الأطراف المحلية والاقليمية وحتى الدولية. في المقابل، وبينما لا تزال أطروحات التسوية السياسية هشة إلى هذا الحد، فمن الصعوبة بمكان تصور أن هناك امكانية لعملية بناء السلام في البلاد، بل يمكن القول إنه في اللحظة التي يمكن أن تدخل فيه الأطراف عمليات تسوية فعلية متعددة الأطراف فإن تلك المرحلة قد تستغرق سنوات طويلة ربما تتجاوز سنوات الحرب.
إعادة تشخيص الأزمة اليمنية:
في الوقت الذي تتزايد فيه دعوات بعض الاطراف المنخرطة في ملف الأزمة اليمنية إلى بدء عملية تسوية سياسية، وانتهاز فرصة الهدوء ما بين الحوثيين والسعودية، فإن حصر الأزمة اليمنية في هذه الزاوية يتطلب اعادة تشخيص الأزمة مرحلياً، وتعريفها باعتبارها أزمة مركبة، أو أزمات متعددة الأطراف، كذلك فإن تسليط الضوء على عملية تقاسم السلطة Power sharing باعتبارها مدخلاً لحل الأزمة هو أيضاً اختزال مخل للحلول الممكنة للأزمة من وجهة النظر السياسية بالنظر إلى وجود مشروعات أخرى تتحدى اعادة تشيكل النظام السياسي كنظام اتحادي في ظل طرح مشروع انفصالي، أما الملف الأصعب من ذلك فهو إعادة بناء القوة العسكرية الموحدة، فكل مشروع سياسي لديه قوته العسكرية المساندة له.
وفي ضوء ما سبق يمكن القول أن معضلة الأزمة في اليمن تكمن في أولوية إعادة بناء الدولة الوطنية، وليس فقط إعادة بناء نظام سياسي، ففي مقابل مشروع “الدولة الوطنية” فإن كل فصيل سياسي لديه مشروع “الدولة المتخيلة” التي تختلف عن الدولة التي عرفها اليمن منذ ستينيات القرن الماضي، وهي في حد ذاتها دولة اشكالية، حيث لم تنضج حالة الدولة الوطنية في النموذج اليمني، وظلت مكونات ما قبل الدولة مثل القبيلة لاعب رئيسي خلال تلك الحقبة، بالإضافة إلى تأثيرات “الاندماج الإكراهي” للجنوب في مرحلة ما بعد حرب الوحدة في تسعنيات القرن الماضي، وفاقمت الحروب الستة ما بين النظام السابق والحوثيون (2004-2011) من ميراث العداء.
وفي حين كثر الحديث منذ نجاح جهود الصين في التقريب ما بين السعودية وإيران (مارس – ابريل 2023) عن “عملية السلام الشامل” في اليمن، مع ذلك لا يزال من المبكر القول أن ما يجري من تحركات دولية واقليمية ومحلية سيفضي في المدى القريب إلى رسم “خريطة طريق” لعملية إنتقال سياسي في اليمن تعيد الأمور إلى نصابها الذي كانت عليه قبل انقلاب الحوثيين على الحكومة المعترف بها في اليمن في سبتمبر 2014، فالعديد من المعطيات تشير إلى مساعي الوصول إلى توسيع الهدنة التي تم التوافق عليها قبل حدوث التقارب السعودي الإيراني بنحو عام تقريباً، من بين هذه المعطيات على سبيل المثال المباحثات التي أجراها السفير السعودي لدى اليمن محمد آل جابر في صنعاء في أول لقاء مع الحوثيين (9 ابريل 2023) والتي أكدت المليشيا الحوثية على أنها تهدف إلى حل الملفات العالقة الخاصة بتحويل الرواتب ورفع الحصار عن مطار صنعاء والموانىء. ومن جانبها لم تعلن السعودية عن مقابل هذه الخطوات باستثناء الإشارة إلى الوساطة من أجل إنهاء الحرب في اليمن.
على هذا النحو من المتصور أن عملية التسوية في اليمن لا يمكن النظر إليها كعملية سلام تقليدية، بقدر ما يمكن النظر إليها كنموذج لعملية تسوية مركبة وفقاً لمعادلات الفاعلين المحليين والاقليميين والدوليين، وفي ضوء القضايا الخاصة بعملية التسوية من المتصور أن هناك مسار للتسوية ما بين الحوثيين والسعودية كجزء من مسارات متعددة تشمل إلى جانب ذلك التسوية ما بين الحوثيين والشرعية، ثم التسوية الشاملة التي تضم كافة الأطراف اليمنية، من بينها المجلس الانتقالى الجنوبي الذي حصل على وعد من السعودية بإدراج القضية الجنوبية على طاولة أي حوار وطني لتسوية الأزمة اليمنية.
كذلك فإن عملية تسوية الأزمة اليمنية في حد ذاتها ستستغرق المزيد من الوقت لتعدد مراحلها ومحطاتها لوضع خريطة طريق لعملية انتقال سياسي، حيث يتعين تحديد الأطراف المحلية والخارجية التي ستنخرط في عملية التسوية وجدول أعمالها، ثم آليات التنفيذ، وهي عملية شديدة التعقيد، لأسباب تتعلق بطبيعة قضايا الصراع واشكالياته كقضايا الهوية لمعالجة البعد الطائفي في الأزمة، والجهوية في اطار اشكالية المركزية مقابل صعود اللامركزية التي أسس لها الحوار الوطني خلال المرحلة الانتقالية الأولى التي تلت سقوط نظام الرئيس على عبد الله صالح (فبراير 201١) قبل أن تفشل بفعل الانقلاب الحوثي على السلطة، ثم قضية السلاح خارج نظاق الدولة، ومدى امكانية اعتماد برنامج لإعادة الدمج والهيكلية الأمنية في المستقبل مابين تلك الأطراف.
وفي هذا السياق من الأهمية بمكان الإشارة إلى العديد من المؤشرات التي ستبلور في مسارات المشهد اليمني المحتملة في المستقبل:
التشكيل الهادىء لليمن الجديد: كل تحول يمني استغرق عقود من الزمن، أقرب الأمثلة لذلك هو تحولات فترة الستينات بعد الإطاحة بالحكم الإمامي، حيث لم يستقر النظام الجمهوري إلا بعد منتصف السبعينات عندما تولى الرئيس اليمني الراحل على عبد صالح السلطة، ثم بدأ يعيد تشكليها بأدواتها الجديدة وأهمها الآداة القبلية، على الرغم من أن التسوية بين طرفي الصراع الإقليمين آنذاك مصر والسعودية كان قد جري قبل بسنوات، ثم فرضت التحولات في النظام الدولي بعد سقوط الإتحاد السوفيتي مشروع الوحدة، ورغم تعثر هذا المشروع إلا أن تأثير العامل الخارجي المتمثل في تحولات النظام الدولي شكلت محدد رئيسي في تحولات السلطة بل والدولة نفسها مع توحيد شطري اليمن، وهي لحظة تاريخية ليست بعيدة عن اللحظة الحالية، ومن ثم يعتقد أن المسار البعيد لاستقرار اليمن سيستغرق سنوات إن لم يستغرق عقداً وربما يزيد حتى يتشكل اليمن الجديد لأن معطيات التاريخ في اليمن تشير إلى أن اليمن لا يعود إلى النقطة السابقة التي انطلقت منها دورة التغير، لكن يؤخذ في الإعتبار أن الوضع الحالي هو مختلف عن قواعد اللعبة التاريخية، وقد ينتج نسخة مشوهة في دولة تتعرض لحالة من التفتيت الممنهج.
إعادة تشكيل مراكز القوى المحلية: عطفاً على ما سبق من الأهمية بمكان فهم ديناميكيات مشاريع القوى المحلية في اليمن، ففي اطار عملية التهدئة أو الهدنة الشاملة على سبيل المثال، سعى المجلس الرئاسي إلى التلويح باستبعاد القضية الجنوبية من مشروع التسوية، في إطار خطوة إلحاق المجلس الإنتقالى الجنوبي بقطار التسوية كتابع للسلطة الشرعية، وهي النقطة التي سرعان ما سعي الإنتقالى إلى القفز عليها، باعادة التركيز على القضية الجنوبية من خلال اطلاق الحوار الجنوبي- الجنوبي، لكن تحركاته شكلت رد فعل بظهور القوة الحضرمية التي تسعى لأن تكون طرف مقابل في معادلة الجنوب، مع الإنحياز لمظلة الشرعية، لكن من الصعوبة تحول حضرموت إلى البديل الثاني للشرعية عن العاصمة المؤقتة عدن، فالانتقال إلى حضرموت سيكون اضعاف جديد لسلطة الشرعية، وبالتالي يتجدد الحديث مرة أخرى عن مشروع الأقاليم الذي تم تبنيه خلال الحوار الوطني، ويمكن تصور أن إعادة تشكل خريطة القوى المحلية المتنافرة على هذا النحو لا يشكل فرصة لنظام سياسي فيدرالى.
اعادة تشكل خرائط النفوذ الخارجي في اليمن: في لحظة التحول الاقليمي الراهنة والتي تتزامن مع لحظة التحول في النظام الدولي، بما يمكن القول معه أن اليمن قد تكون أحد ساحات اختبار هذه اللحظة في الشرق الأوسط، فللمرة الأولى الصين والولايات المتحدة وجهاً لوجة في عملية تسوية في المنطقة، وعلى الجانب الأخر السعودية وايران، وفي هذا السياق، فإن تحرك أي طرف سيكون وفقاً لحسابات المصالح التي تعنيه، لكن القاسم المشترك هو تقاسم النفوذ بالاضافة إلى الإعتبار الخاص بالعامل الجيوسياسي، بالنظر إلى موقع القيادة الوسطى الأمريكية من اليمن التي تعيد تعزيز تواجدها العسكري في المرحلة الحالية والذي يمثل نقطة دعم لوجستي رئيسية للقوات الأمريكية في الاندوباسفيك وبالقرب من الصين، في مقابل ذلك تراهن الصين على مشروع الحزام والطريق الذي يمر عبر الخليج إلى السواحل اليمنية وصولاً إلى القرن الأفريقي والبحر الأحمر، أما على الصعيد الإقليمي فمن الناحية العملية لم يترجم التقارب السعودي الإيراني بشكل واضح الى احتمال دفع عملية تسوية في المنطقة وفق تفاهمات مشتركة بين الطرفين.
اشكاليات متعددة في مسار عملية التسوية:
من المتصور أن هذه الاحتمالات السالف الإشارة إليها المتوقعة لمستقبل الازمة اليمنية ستنعكس على أي تسوية مرتقبة في صورة العديد من الإشكاليات ومنها: –
اشكالية تعدد الوساطات والأدوار والتي يمكن النظر إليها في ضوء تعدد الفاعلين ومنظور أطراف الصراع إليها، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي: –
الوساطة الأممية: من الأهمية بمكان التفرقة بين دور المبعوث الأممي ودور الوسيط، لا يعتقد أن البعثة الأممية تقوم بدور الوسيط بين الأطراف إلا عندما تنضج بعض مبادرات التسوية، وبالتالي هي ليست منتج أو طرف مبادر للتسوية، بل تبدو أقرب إلى طرف يتعاطى بتكتيك إدارة الأزمة، بالاضافة إلى أن البعثة ليست معنية فقط بالجوانب السياسية، بقدر ما تبدو معنية بالملف الانساني في المقام الأول، وتسعى إلى تلقف المبادرات السياسية لتهيئة الفرصة لوضع أفضل للعمل الانساني الذي يواجه تحديات هائلة في اليمن في ظل استمرار الحرب على الصعيد المحلي.
الوساطة السعودية: ظهرت إشكالية مبكرة حول إمكانية أن تكون الرياض وسيطاً ما بين الحكومة الشرعية والحوثيين على خلفية الزيارة الأولى التي قام بها وفد سعودي للمرة الأولى إلى صنعاء بعد نحو 8 سنوات على إطلاق عاصفة الحزم (مارس 2015)، وهو الدور الذي يرفضه الحوثيون ويعتبرون الرياض طرفاً في الأزمة وليست وسيطاً بين طرفيها (الشرعية والحوثيين)، كذلك يشير بعض قادة الحركة إلى أن الجولة الأولى من المباحثات مع السعودية فشلت على خلفية رفع السعودية سقف مطالبها، وعدم الإلتزام بالإستحقاقات الخاصة بالتهدئة.، وتتهم هذه القيادات الولايات المتحدة بعرقلة التسوية على خلفية طرحها ادخال الشرعية في معادلة التسوية.
الوساطة العمانية: نجحت عمان في أكثر من مناسبة إلى دفع الحوثيين إلى طاولة التفاوض، لكن قد يكون من المتصور أن عمان تراهن على تسوية تكتيكية، بمعنى أنها تتدخل في الشق المتعلق بالعلاقة ما بين الحوثيين والرياض بشكل أساسي في إسظطار دعمها من زاوية أخري لتسوية وفق الحل الاقليمي، لكنها لا تتدخل على مستوي أبعد في اطار العلاقة ما بين الشرعية والحوثين، حتي وإن كانت تساند ذلك.
الوساطة العراقية: عرضت بغداد القيام بدور الوساطة في الأزمة اليمنية، وكان الطرح العراقي واضحاً في امكانية معالجة الأزمة من مدخل التسوية الاقتصادية، وهو مدخل لا يحظى بدعم أغلب الاطراف المحلية، كالشرعية التي أكد وزير الخارجية أحمد عوض بن مبارك خلال تداول الطرح العراقي ( يوليو 2023) أن المدخل الرئيسي للحل هو المرجيعات الثلاث، في تليمح إلى رفض هذا العرض إذا ما تم ربطه بهذا المدخل، اللافت أن الحركة الحوثية لم تعلن موقفها هي الأخرى بشكل رسمي تجاه هذا الطرح، بل ربما تجاهلته لأن الطرح العراقي يضع الشرعية في المعادلة، وهو ما يفسر إشارة بعض القيادات الحوثية إلى العودة مجدداً إلى المسار العماني وأن الاتصالات لا تزال قائمة مع الرياض على الرغم من أن المليشيا الحوثية نفسها هي التي تتبنى مدخل التسوية الإقتصادية في إطار العلاقة بينها وبين الرياض.
الدور الأمريكي في عملية التسوية: يبدو أن أهداف الولايات المتحدة في إنهاء الصراع في اليمن واضحة من حيث التأكيد على موقع الشرعية في السلطة مع تسوية شاملة تضم كافة أطراف الصراع اليمني، لكن هل يمكن اعتبار الولايات المتحدة وسيطاً في الأزمة؟ من المؤكد أن مواقف ايران والحوثيين من الولايات المتحدة يعكس مدى صعوبة لعب الولايات المتحدة هذا الدور بشكل مباشر ، بمعنى أكثر وضوحاً لا يمكن للمبعوث الأمريكي تيموثي ليندركينج التواجد في صنعاء وإجراء لقاءات مع الحوثيين، كذلك بالنسبة لطهران، وبالتالي حتى لو كانت هناك رؤية أمريكية لدعم جهود التسوية بل وبناء السلام، فمنظمات العمل الإنساني في اليمن تشير لتصدر الولايات المتحدة لقائمة دعم تلك المنظمات وتقديم المساعدات لليمنيين المتضررين من الحرب، لكن في مقابل ذلك لا يمكن لواشنطن أن تحشد كافة الأطراف لعملية تسوية، بينما تشارك السعودية جهود إنهاء الصراع في اليمن، بالاضافة إلى تحركاتها في نفس الصدد تجاه الحكومة المعترف بها، بالاضافة إلى تحركاتها في عمان، ودعمها لدور البعثة الأممية.
الدور الصيني في عملية التسوية: في 10 مارس العام الجاري نجحت الصين في تحقيق إختراق كبير أنهى القطيعة ما بين الرياض وطهران، وبعد ثلاثة أسابيع ( 6 ابريل 2023) أجرى مسؤولين من البلدان مباحثات رفعية المستوى بشأن استحقاقات تطبيع العلاقات، وفي هذا السياق يعتبر ملف اليمن هو الإختبار الأول ما بين الطرفين، وظهرت مؤشرات عديدة على التقارب، لعل أبزرها دور السعودية في إجلاء الدبلوماسيين ورعايا إيرانيين من السودان، وتبادلت السعودية والحوثيين لقاءات في صنعاء والرياض، ومع كل ذلك لم تظهر بكين تحركات على هذا المسار يمكن أن تعكس رؤية الصين تجاه الملف اليمني، وما اذا كانت ستكتفي باستمرار دعم تقدم مسار التقارب السعودي الإيراني على إعتبار أن تداعياته كفيلة بتسوية الأزمة أم أنها تريد الإنخراط المباشر كوسيط بين مختلف الأطراف.
ذهنية الصفقات:
تتجلى هذه الذهنية بشكل رئيسي في نهج مراكز القوى اليمنية التي تقدم مشروعاتها الخاصة على مشروع التسوية الشاملة، ياتي في المقدمة من ذلك الحركة الحوثية التي تتبنى خيار الهدنة على أرضية صفقة اقتصادية مع الرياض، لكن لا يمكن في الوقت ذاته قبول الرياض بصفقة سياسية لا تشمل ترتيبات أمنية توقف التصعيد المسلح في اليمن، بينما يعتبر الحوثيين أن هذا هو المعادل لوقف الحرب مع الرياض. بالإضافة إلى تحدي غياب الترتيبات الأمنية بالإضافة إلى أهمية ايجاد أفق وقف إطلاق النار على الصعيد الداخلي، في ظل صفقة ذات بعد اقتصادي، ومع ذلك فإن ظاهرة الصفقات في التسويات السياسية ليست جديدة، ولكن ما هي طبيعة الصفقة وما هي أبعادها حتي يمكن الحكم عليها في إطار عملية التسوية.
وفقاً لهذه الفرضية قد تكون ذهنية الصفقة ممكنة مع الحركة الحوثية فيما يتعلق بإدارة البعد الإقليمي في الأزمة لكن على الصعيد المحلى فيما بين مراكز القوى قد لا تكون ذهنية الصفقة هي السائدة بقدر ما يسود صراع المشروعات السياسية، بالاضافة إلى سباقات التمدد والهيمنة والنفوذ، وبالتالي سيكون هناك صعوبة التوصل إلى قواسم مشتركة ما بين تلك الأطراف حتي على أرضية الصفقة، لأن كل طرف ليس لديه استعداد لتقديم تنازلات.
اشكالية مرجعيات التسوية:
حتى الأن لا تزال المرجيعات الثلاث ( المبادرة الخليجية، الحوار الوطني، القرار 2216) تشكل الأسس التي تتمسك بها الشرعية والأطراف المساندة لها، ويمكن القول أن هذه الأسس تظل صالحة في حال غياب أي مبادرة لتسوية فعلية، لكنها قد لا تكون صالحة بالنظر إلى الواقعية السياسية، حيث تجاوزها الزمن ليس بفعل موازين ونتائج الصراع، وليس بفعل الادعاءات الحوثية التي تدور حول هذا الأبعاد، بدعوى أنها الطرف المنتصر في الحرب والذي يمكنه فرض شروطه، ولكن يمكن النظر إلى المتغيرات الهيكلية التي طالت السلطة السياسية (مجلس القيادة الرئاسي) التي تستند إليها تلك المرجعية، بالاضافة إلى أن المشروعات السياسية لمختلف الأطراف قد تجد مخارج لها في تلك المرجعية من الناحية الشكلية اذا ما أخذ في الاعتبار مشروع الأقاليم، لكن من الناحية العملية فإن أطراف الحوار الوطني لديهم منظور مرحلي مختلف، وفي حال طرح مبادرة تسوية تضم الحركة الحوثية فسيكون هناك حاجة فعلية إلى حوار وطني جديد.
خلاصة القول؛ لا توجد إدارة سياسية أو أرضية لعملية التسوية السياسية في اليمن، وبالتعبية فإن عملية بناء السلام قد تكون أبعد من عملية التسوية وأكثر صعوبة، وسيظل الوضع اليمني رهن امكانية عقد جزئية مؤقته، لا ترقى إلى مبادرات سياسية، أو الحل الشامل لإحلال السلام، كما أن دينامكية التفاعلات المحلية والاقليمية والدولية لا تساعد على افراز مبادرة تسوية يمكن أن تمهد لخريطة طريق واضحة للخروج من الأزمة اليمنية.
ويمكن تصور أن الحل الجزئي يرتب أبعاد جديدة في مراكز موازين القوى، ما قد يشكل ارتدادات تصعيدية في الأزمات الأخرى، وفي ظل تعدد المعضلات السياسية والأمنية والإنسانية سيبقى اليمن قيد إعادة التشكل في إطار دورة تعيد إنتاج الأزمات ومن ثم تبدو صورة مستقبل حل الأزمة اليمنية قاتمة، خاصة وأن مؤشرات الصراع الممتد على المسرح المحلي تشير إلى أن الاطراف لم تصل بعد إلى مرحلة الإنهاك العسكري، ولا يعتقد أن هذه المرحلة على وشك الانتهاء، حيث لا تزال الأطراف تمتلك القدرات التعبوية والعسكرية.
في المستقبل ستكون الصورة قاتمة أكثر مما هي عليه، حيث لا يوجد أفق لوجود إمكانية لمسار سياسي واقتصادي وأمني يشكل قاسم مشترك لدى كافة الأطراف، ويعيد الإعتبار لمؤسسات الدولة، من البنك المركزي إلى الجيش إلى الحكومة، فعملياً هناك أكثر من حكومة في البلاد بغض النظر عن مشروعية أي منها، فهناك حكومة معترف بها لكنها لا تمارس صلاحيتها إلا في نطاق محدود. وبالاضافة لكل ما سبق فإن عامل استدامة الأزمة في اليمن قد يكون معضلة جديدة في ضوء مقاربة ترسخ سياسية الأمر الواقع.
[1] UN Security Council Presidential Statement , S/PRST/2001/5, February 20, 2001
[2] https://www.beyondintractability.org/contributors/michelle-maiese
[3] https://www.beyondintractability.org/essay/conflict-stages
[4] http://www.peacebuildinginitiative.org/index4599.html?pageId=1765
إخلاء للمسئولية: تعبّر وجهات النظر المذكورة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المركز أو فريق العمل.
التعليقات