تحولات الردع: كيف أسقط الحوثيون طائرات MQ-9 Reaper الأمريكية؟
- 05 يوليو 2025
في تطور مفاجئ هزّ أسس التفوق الجوي الأمريكي، تمكّن الحوثيون من تحقيق إنجاز عسكري استثنائي خلال مواجهتهم مع الولايات المتحدة وحلفائها في البحر الأحمر، والتي امتدت من يناير 2024 وحتى مايو 2025. حيث نجحت الجماعة المُصنّفة أمريكياً كـ"منظمة إرهابية أجنبية" في إسقاط 19 طائرة مسيّرة أمريكية من طراز (MQ-9 Reaper)، المعروفة باسم "الصياد القاتل". وكانت الجماعة قد اسقطت ثلاث طائرات من نفس الطراز بين عامي ٢٠١٧-٢٠١٩، ليصل العدد الإجمالي لـ٢٢ طائرة (١).
هذا الإنجاز العسكري الذي حوّل "الصياد" إلى صيد سهل في سماء اليمن يحمل دلالات استراتيجية عميقة، فطائرة (MQ-9 Reaper) تُعتبر من أكثر أدوات القوة الجوية الأمريكية تقدماً وفتكاً. فكيف تمكنت جماعة دون دولتية تفتقر للبنية التحتية العسكرية المتطورة من تحقيق ذلك، وما هي التقنيات والآليات التي استخدمتها، ومن منحها العصا السحرية لكسر الهيمنة الجوية الأمريكية؟
بناءً على تسع مقابلات مع خبراء وطيارون ومهندسون في القوات الجوية اليمنية، وعلى مصادر البيانات المفتوحة، ومنشورات دولية بشأن الموضوع، نحاول بناء سردية متماسكة وواقعية تكشف عن الآليات والتقنيات التي مكّنت الحوثيين وداعميهم في طهران وموسكو وبكين من تحويل أحد أقوى رموز القوة الجوية الأمريكية إلى هدف قابل للاختراق؟ وما تداعيات ذلك على مستقبل الصراعات الإقليمية وتوازنات القوى العالمية.
بين الصمت الرسمي والدعاية
رسمياً، التزمت واشنطن الصمت تجاه هكذا ادعاءات في البداية، لكن تسريبات لاحقة كشفت عن خسائر مؤكدة لبعض الطائرات في الأجواء اليمنية، ما فتح الباب أمام تساؤلات عميقة ومستمرة عما حدث لطائرة مسيّرة تعد جوهرة التاج في القوات الجوية الامريكية، حيث أن الصمت لم يعنِ أبدا نفي وقائع الإسقاط.
بالمقابل، أرجع الحوثيون نجاح العملية إلى "صاروخ أرض-جو محلي الصنع"، ولم يكن ذلك مجرد تفصيل تقني، بل أُدرج ضمن خطاب دعائي يسعى إلى تعزيز صورة الجماعة كقوة قادرة على بناء ردع جوي محلي الصنع وليس فقط استيراده. غير أن هذا الادعاء -رغم قيمته الرمزية- يفتقر إلى أيّ سند عملياتي أو تقني موثوق، وبقدر توظيفه دعائياً، كان أيضا حماية للذراع الذي منح الحوثيين المساحة اللازمة لاستخدام بصمتهم الخاصة على أصابعه المخفية.
من خلال تحليل أنماط الاشتباك الميداني، ومعطيات الرصد والاستقصاء، تبيّن أن عمليات الإسقاط لم تتم باستخدام صواريخ مضادة للطائرات، بل عبر تكتيك يُعرف بـ "الكمين الجوي الصامت". لذلك، لم تعد المسألة مجرد حوادث إسقاط متفرقة، بل باتت تُعبّر عن تحوّل بنيوي في طبيعة التهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة، لا سيما حين تتحرك أدواتها الجوية خارج مظلة سيطرتها الكاملة.
نقاط القوة والضعف في (MQ-9 Reaper)
تُعد المسيرة (MQ-9 Reaper)، إحدى أهم أدوات الهيمنة الجوية الأمريكية في سياق الحروب الهجينة والصراعات غير المتماثلة، وقد شكلت منذ دخولها الخدمة في أكتوبر ٢٠٠٧، العمود الفقري للعمليات الجوية التي تعتمد على الرصد المستمر والضربات الدقيقة. تتميز الطائرة بقدرتها على التحليق المتواصل لأكثر من 27 ساعة، على ارتفاع يصل إلى 50 ألف قدم (أكثر من ١٥ كيلو متر)، ما يمنحها القدرة على تغطية مساحات جغرافية واسعة دون الحاجة إلى إعادة التزود بالوقود أو التوجيه الأرضي المتكرر.
هذه المنصة الجوية مزوّدة بحزمة متطورة من الحساسات الكهروبصرية، ورادارات الاستطلاع الأرضي، وأنظمة الاتصالات بعيدة المدى، ما يتيح لها أداء مهام متكاملة تشمل جمع المعلومات الاستخباراتية من الميدان، وتعقّب الأهداف عالية القيمة، وتنفيذ ضربات جوية دقيقة تُعرف بـ"الضربات الجراحية"، باستخدام صواريخ (Hellfire) وقنابل موجهة بالليزر من طراز (GBU-12).
رغم هذه القدرات، يخفي تصميم (MQ-9) نقاط ضعف جوهرية. إذ افترض مصمموها أنها ستعمل في بيئات متساهلة تسيطر عليها الولايات المتحدة جوياً، حيث التهديدات الجوية أو الدفاعات المعادية إما محدودة أو غائبة تماماً. بناءً على هذا التصور، لم تُجهّز الطائرة بأنظمة دفاع ذاتي نشطة، كما أن سرعتها المحدودة (400 كم/ساعة تقريباً) وأنماط طيرانها شبه الثابتة، يجعلها هدفاً سهل التعقب والاستهداف من قبل أي خصم يمتلك القدرة والإرادة والتخطيط التكتيكي الكافي.
الأخطر من ذلك، وجود نقطة عمياء علوية في تصميم الطائرة، إذ أن معظم حسّاساتها موجهة إلى الأسفل لجمع البيانات البصرية والحرارية من الأرض، بينما تغطيتها للمجال العلوي ضعيفة أو شبه معدومة. هذه الفجوة تمنح أي خصم الفرصة لتنفيذ هجمات رأسية مباغتة من الأعلى، سواء بمسيّرات انتحارية أو عبر وسائل خداع حراري، دون أن تتمكن الطائرة من اكتشاف التهديد في الوقت المناسب.
بالتالي، فإن (MQ-9)، رغم تفوقها في مهام الرصيد لفترات طويلة، تبقى عرضة للاستهداف حين تُدفع إلى بيئات لا تمتلك فيها الولايات المتحدة السيطرة الجوية الكاملة، كما هو الحال في الأجواء اليمنية اليوم.
تكتيك الكمين الجوية
اعتمد الحوثيون في التعامل مع (MQ-9) على تكتيك الكمين الجوي، وهو أسلوب يُبنى على شبكات مراقبة جبلية بشرية تستخدم مناظير بصرية طويلة المدى، تتيح رصد المسيّرات دون أي انبعاث إلكتروني يمكن أن يكشف مواقعها. هذه الشبكات المنتشرة في مناطق وعرة وصعبة التحديد، تعمل على مراقبة الطائرات لأسابيع وأشهر، ما يمكّنها من رسم خرائط دقيقة لمسارات تكرارية تعتمدها (MQ-9) خلال طلعاتها المعتادة. هذا النمط التكراري يخلق نوافذ استهداف يمكن من خلالها نصب كمائن محسوبة بدقة.
المرحلة التالية من هذا التكتيك تقوم على استخدام مسيّرات انتحارية بدائية لكنها فعالة، يتم إطلاقها إلى ارتفاعات أعلى من ارتفاع (MQ-9)، لتدخل في وضع كمين جوي فوق المسار المتوقع للطائرة. ومن هذه الزاوية العمياء، تنقض المسيّرة الحوثية بسرعة كبيرة تعززها الجاذبية، وتُحدث أضراراً بالغة في بنية الـ (MQ-9) قبل أن تُتاح لها فرصة الهرب أو المناورة.
ورغم أن الحرب الإلكترونية لم تكن يوماً سمة متقدمة في ترسانة الحوثيين، إلا أن هناك إشارات إلى استخدامهم لأساليب تشويش محدودة ومركّزة. هذه الوسائل لا تهدف إلى إسقاط الطائرة مباشرة، وإنما لتضليل أنظمتها أو التقليل من كفاءتها في المراقبة والتحليل اللحظي، وتشير بعض المصادر إلى إمكانية اعتراض اتصالات (MQ-9) أو تحليل بيانات بثها وتردداتها، لتقدير مواعيد الإقلاع والعودة، وهو ما يساعد على دقة تحديد نقاط الكمين.
من المؤكد أن هذه التقنيات والأساليب ليست قدرات حوثية بالكامل، ولكن في سياق الحرب الذكية، يبدو أن الحوثيين (بمساعدة طهران أو عبر دراسة متأنية لحطام طائرات أُسقطت في السابق) باتوا يفهمون جيداً بروتوكولات التشغيل الأمريكية. هذا الفهم مكّنهم من معرفة أوقات تغيّر النوبات التشغيلية للطائرات، ومسارات العودة أو نقاط التزود بالوقود، ما وفر فرصاً ذهبية للهجوم عندما تكون (MQ-9) في وضع تشغيل غير مثالي.
إضافة لما سبق، فإن استخدام "الطعوم الحرارية والإلكترونية" من بين أكثر الأساليب المبتكرة، وهي أجهزة صغيرة تنبعث منها إشارات حرارية أو رادارية تحاكي الأهداف الحقيقية، فتدفع (MQ-9) لتغيير مسارها نحو مناطق تم إعدادها مسبقاً كمصيدة. يُعتقد أن هذا النوع من التكتيك يتطلب فهماً معقداً جداً لتكنولوجيا الاستشعار، مما يؤكد وجود دعم خارجي أكثر تطوراً من إيران وحدها.
ما الذي كسبه الحوثيون من إسقاط MQ-9؟
لا يمكن النظر إلى إسقاط طائرة (MQ-9 Reaper) من قبل الحوثيين باعتباره مجرد انتصار تكتيكي، بل هو مكسب استراتيجي رمزي ومعنوي يضرب عمق الصورة الذهنية للتفوق الأمريكي. لم تكن هذه الطائرة أداة استطلاع عادية، بل لطالما شغلت دور "صياد القادة"، حيث ارتبطت عملياتها بتصفية وجوه بارزة في تنظيم القاعدة والحرس الثوري الإيراني، وأبرزهم قاسم سليماني.
يعني ذلك أن تحييدها ولو بشكل محدود في سماء اليمن يُعد بمثابة تحصين مباشر للقيادات الحوثية، وعلى رأسهم زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي، ضد خطر الاغتيال عن بعد، ما يمنح الجماعة هامش مناورة ميداني ونفسي أكبر في تحركاتها.
الأهم من ذلك أن عمليات إسقاط تلك المسيرة بنسق متوالٍ، تُوجّه رسالة واضحة بأن التفوق الجوي الأمريكي لم يعد عاملاً حاسماً في معادلة الردع، بل أصبح قابلاً للاختراق والتقويض بوسائل منخفضة الكلفة وغير تقليدية. هذا بحد ذاته يغيّر شكل العلاقة بين الفاعل النظامي الأمريكي والخصم غير النظامي، ويفتح الباب أمام قوى إرهابية حول العالم لتبني تكتيكات مشابهة تُربك الحسابات الاستراتيجية للقوى الكبرى.
على المستوى الداخلي للجماعة، أدّى هذا الإنجاز إلى رفع معنويات القيادات الميدانية من الصفين الثاني والثالث، من الذين لطالما شعروا أنهم تحت أنظار مسيّرات الاستطلاع الأمريكية. الانطباع الجديد -ولو مؤقتاً- هو أن السماء لم تعد مساحة سيطرة أمريكية مطلقة، وأن هناك فرصاً فعلية لردع الخطر القادم من الأعلى.
في بعدها الدعائي، خدمت هذه العمليات إعادة تموضع الحوثيين كعنصر مركزي داخل ما يعرف بـ "محور المقاومة"، فكل طائرة (MQ-9) تسقط، تسجل نقطة تميز لصالح سردية "كسر الهيبة"، وتجعل من الجماعة فاعلاً أكثر إقناعاً في أعين حلفائها في طهران أو حتى موسكو وبكين، الذين يبحثون عن وكلاء محليين قادرين على إرباك واشنطن خارج جبهات الصراع التقليدية.
ما يزيد من أهمية هذا الإنجاز، هو ما أشارت إليه تقارير استخباراتية عن قيام الحوثيين بمشاركة أجزاء من حطام (MQ-9) مع خبراء روسيين وصينيين. بالنسبة لموسكو وبكين، يشكل ذلك فرصة نادرة لدراسة المنصة عن قرب، وتحليل أنظمة التوجيه والاستشعار وسلوك الطائرة تحت الضغط. إنّها مكاسب استخباراتية لا تقدّر بثمن، تُسهم في تحسين تصميم أنظمتهم الدفاعية والمسيّرات المستقبلية، وربما في صياغة عقيدة مضادة للتفوق الجوي الأمريكي على المدى البعيد.
كيف ساعدت إيران وروسيا والصين الحوثيين في إسقاط (MQ-9)؟
لم يكن النجاح الحوثي المتكرر في إسقاط طائرات (MQ-9) الأمريكية مجرد تطور ميداني مفاجئ، بل نتيجة تفاعل ثلاثي معقّد بين الدعم الإيراني، والتكتيك الروسي، والاستغلال الاستراتيجي الصيني. كل طرف ساهم في هذا التحول من زاويته الخاصة، ضمن ما يمكن اعتباره تجربة هجينة لصياغة جيل جديد من الردع المضاد للهيمنة الجوية الأمريكية.
أولاً: الدور الإيراني
منذ بداية تدخلها في اليمن، تعاملت إيران مع جماعة الحوثيين كأداة استراتيجية في مشروعها الإقليمي الأوسع، لكنها خلال العامين الأخيرين صعّدت دعمها إلى مستوى النمذجة التشغيلية وتوطين التقنية، فلم تعد طهران تكتفي بتوريد الأسلحة للجماعة كما هو مثبت في تقارير فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة، بل بدأت بتأسيس قدرات إنتاج لامركزية في الداخل اليمني، تشمل خطوط تجميع مسيّرات انتحارية، يتم تهريب مكوناتها عبر شبكات معقدة متعددة الجنسيات والوظائف، وهذا يعني أن طهران لو قررت رفع يدها عن الجماعة نتيجة ضغوط من أي نوع، ستكون الأخيرة قادرة على الاستمرار بقدر ما راكمت من بنى وتقنيات في الداخل.
وقد كشفت تقارير دولية في مطلع عام 2025 عن وجود خطوط إنتاج نشطة داخل اليمن مخصصة لتصنيع المسيّرات الهجومية، بعضها موجّه للاستطلاع والآخر للضربات الانتحارية الدقيقة. وتُظهر بيانات عمليات الاعتراض البحرية أن إيران لم تكتفِ بتوريد المسيّرات، بل شرعت في تهريب أنظمة توجيه دقيقة تستخدم لتحويل القذائف التقليدية إلى ذخائر ذكية. إحدى الشحنات المضبوطة في يناير 2025 احتوت على أكثر من 300 وحدة توجيه متقدمة بدقة تصل إلى عشرة أمتار، إلى جانب مكونات للصواريخ الباليستية متوسطة المدى ونماذج من مسيّرات بحرية، بالإضافة إلى معدات الاتصالات والشبكات وتجميعات قاذفات الصواريخ الموجهة المضادة للدبابات، وهو ما يشير إلى نقل إيران التكنولوجيا المتقدمة وليس فقط العتاد (٢).
وأكد تقرير صادر عن منظمة "أبحاث تسليح النزاعات" (CAR) أن مسيّرة "قاصف" الحوثية ليست سوى نسخة معدّلة من المسيّرة الإيرانية "أبابيل"(٣)، مما يدل على أن الحوثيين لا يطورون تقنياتهم محلياً من الصفر، بل يعيدون إنتاج نماذج إيرانية وفق توجيه مباشر من خبراء إيرانيين. وقد وصل عدد من المستشارين المتخصصين في حرب الأنظمة الدفاعية إلى صنعاء أواخر 2024، لتدريب الكوادر الحوثية على تكتيك الاستنزاف منخفض الكلفة (٤)، وهو أسلوب يرتكز على استخدام مسيّرات رخيصة الثمن لاستنزاف المسيرات والأنظمة الدفاعية الأمريكية المكلفة، مثل (MQ-9)، ونظام "باتريوت"، الذي يتجاوز سعر الصاروخ الواحد فيه 3.5 مليون دولار. هذا التفاوت الحاد في الكلفة يخلق معادلة إنهاك اقتصادي متعمد للطرف الآخر، ويمنح الحوثيين قدرة على المناورة رغم محدودية مواردهم.
لقد أصبحت المسيّرات الحوثية عنصراً محورياً في بنك الأهداف الأمريكية والبريطانية، حيث ركّزت الضربات الجوية على ورش تجميع وتصنيع المسيّرات (٥)، باعتبارها الذراع العسكرية الأشد فاعلية للجماعة. ومع تصاعد أهمية هذه التقنية في مسرح العمليات، بدأت إيران في نقل الخبرات المتعلقة بأنظمة التوجيه البصري والراداري، وتطوير خوارزميات الاستهداف الذاتي، ما يعكس رغبة طهران في تمكين وكيلها اليمني من خوض حروب طويلة الأمد بأقل تكلفة ممكنة.
استخباراتياً، تزود طهران الحوثيين بالمعلومات من مصادر متعددة، تشمل الأقمار الصناعية "نور" -٣ أقمار و"الخيّام"، وشبكة من الطائرات المسيرة بعيدة المدى، والوحدات البحرية الإيرانية المتمركزة بشكل شبه دائم في منطقة البحر الأحمر. وعلى الصعيد السياسي، دعّمت طهران هذا التمكين العسكري بتوسيع دوائر الدعم الدبلوماسي للحوثيين، وساهمت في تسهيل قنوات التواصل بين الجماعة وروسيا، بما في ذلك زيارتان لوفود حوثية إلى موسكو للقاء نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، خلال العام ٢٠٢٤، الى جانب اجتماعات إضافية في عُمان (٦). وقد أُجريت هذه الاتصالات برعاية غير مباشرة من إيران، في مسعى لتعزيز موقع الحوثيين ضمن تحالفات جيوسياسية أوسع، وإعادة تموضعهم كفاعل معترف به في ميزان القوى الإقليمي.
بذلك، فإن الدعم الإيراني للحوثيين لم يعد يقتصر على تسليح مباشر أو تحالف تكتيكي، بل تطور إلى مشروع تمكين استراتيجي واسع، خصوصاً في مجال الطيران المسيّر، الذي بات يشكل جوهر القوة الضاربة للجماعة وأداة الاستنزاف الرئيسية ضد خصومها الإقليميين والدوليين.
ثانياً: الدور الروسي
رسمياً، اختار الروس الحياد الاستراتيجي في الصراع اليمني، إلّا أن حرب أوكرانيا قد أدّت إلى تحول جوهري في طبيعة المقاربة الروسية للحوثيين المقربين من إيران، نتيجة لزيادة التعاون العسكري بين طهران وموسكو من جهة، والدعم الغربي العسكري لكييف من جهة أخرى، وبالتحديد بعد سماح الغرب لكييف باستخدام الصواريخ بعيدة المدى ضدها. اعتمدت روسيا في اليمن نموذجاً متطوراً من الحرب الهجينة عبر الحوثيين، فهي لا تسعى لانتصار ميداني سريع بقدر ما تهدف إلى تحويل اليمن لساحة استنزاف طويلة الأمد لواشنطن، تصرف الأخيرة من خلالها طاقتها بعيداً عن الجبهة الأوكرانية.
في مارس 2025، نشر موقع Middle East Eye، تقريراً أكد نقلاً عن مصادر استخباراتية وصول فريق تدريب روسي متخصص في الحرب الإلكترونية المضادة إلى مناطق الحوثيين في اليمن،(٧) هؤلاء الخبراء، الذين ينتمون إلى الوحدة (26165) من الاستخبارات العسكرية الروسية (GRU)، قدموا تدريباً متقدماً على تقنيات التتبع والتشويش الانتقائي، وهي تقنية تسمح بشلّ أنظمة الاتصالات والملاحة للطائرات المُسيّرة الأمريكية دون التأثير على الأنظمة المدنية. وكان الروس قد اختبروا -في وقت سابق- الثغرات في المسيرة الأمريكية (MQ-9)، حيث قامت مقاتلة روسية من طراز (Su-27) بتنفيذ مناورة احتكاكية مباشرة ألحقت من خلالها الضرر بمروحة المسيرة، ما دفع الجانب الأمريكي إلى اتخاذ قرار بإسقاطها في المياه الدولية للبحر الأسود، وذلك في 14 مارس 2023(٨).
النتائج الميدانية لهذا التدريب ظهرت بوضوح في زيادة معدلات إسقاط طائرات (MQ-9) خلال الأشهر الثلاثة التالية لوصول الفريق الروسي. هذه الزيادة لا تُفسّر فقط بتحسن الأسلحة، بل بتطوير التكتيكات المضادة للطيران، المعتمدة على استغلال نقاط الضعف في أنظمة الطيران الأمريكية.
إلى جانب التدريبات العسكرية، يتجلى الدعم الروسي للحوثيين من خلال تزويدهم بأنظمة التشويش الإلكتروني وتقنيات التتبع المتطورة، فضلاً عن تبادل المعلومات الاستخباراتية وصور الأقمار الصناعية. في أغسطس 2022، أطلق صاروخ سويوز الروسي القمر الاستخباراتي الإيراني "الخيّام" من كازاخستان، في خطوة مثلت نقلة نوعية في القدرات الاستخباراتية الإيرانية (٩). تم وضع القمر الصناعي "الخيام"، الذي بُني بالتعاون مع روسيا واستند إلى تقنية القمر الروسي "كانوبوس-V"، في مدار أرضي منخفض على ارتفاع 500 كيلومتر(١٠)، مما منح الإيرانيين إمكانية الحصول على صور بدقة متر واحد، لكن القمر يحتاج إلى وقت محدد لتنزيل الصور إلى الأرض مما يحد من فعاليته في استهداف الأهداف المتحركة كالسفن والطائرات. ومع ذلك، يُستخدم نظام "الخيّام" ضمن ترتيبات تبادل استخباراتي مع كوكبة "كانوبوس-V" الروسية من أقمار التجسس، مما يوفر للإيرانيين ومن خلالهم للحوثيين معلومات أكثر حداثة حول حركة السفن والطائرات الامريكية. هذه العمليات تعكس مستوى التنسيق المتقدم بين الأطراف الثلاثة - روسيا وإيران والحوثيين - في استهداف المسيرات الأمريكية (MQ-9).
وعلى صعيد التسليح، يتّسم الدور الروسي بـالدقة الاستراتيجية أكثر من الكثافة. بدلاً من توريد كميات كبيرة من الأسلحة، تركز موسكو على زيادة القوة، من خلال تحسين وتطوير العديد من الأسلحة السوفيتية التي كانت ضمن مخزون الجيش اليمني، بالإضافة لترقية صواريخ (SA-2) السوفيتية القديمة إلى مستوى يقارب أداء أنظمة (SA-15) الحديثة.
هذه الترقيات تحوّل صواريخ عمرها 40 عاماً إلى تهديد حقيقي للطيران المتقدم اليوم. التحليل التقني يُظهر أن نظام (SA-2) المُحدّث يمتلك قدرة كشف محسّنة تصل إلى 120 كيلومتر، ومدى إصابة يصل إلى 45 كيلومتر، مع قدرة على تتبع أهداف متعددة في آن واحد؛ وهي قدرات لم تكن متاحة في النسخة الأصلية، وبالفعل استعرض الحوثيون، في يناير 2024، صاروخ S-75 (SA-2) ، تم تعديله ليصبح صاروخاً مضاداً للسفن(١١) .
الاستراتيجية الروسية تُحقق نجاحاً ملموساً في معادلة الاستنزاف، إذ أن البيانات المنشورة في تقرير الكونغرس الأمريكي حول تكاليف العمليات العسكرية، تُظهر أن الولايات المتحدة أنفقت أكثر من 4.2 مليار دولار على العمليات في البحر الأحمر خلال العام الماضي، هذا المبلغ الكبير، مضافاً إليه الخسائر التي تكبدتها الشركات الملاحية الأمريكية جراء تغيير مسار إبحارها من البحر الأحمر إلى رأس الرجاء الصالح، يجعل اليمن استثماراً استراتيجياً مربحاً جداً بالنسبة لموسكو.
وبالإمكان القول، أن السياسة الروسية تجاه الحوثيين، تجاوزت الدعم التقني إلى الحقل الدبلوماسي، حيث أدانت موسكو تصنيف أمريكا للحوثيين كجماعة إرهابية، ما يُعد مؤشراً لتغطية سياسية تهدف لإضفاء شرعية ضمنية على علاقتها المتنامية بهم.. مع الإشارة إلى أن روسيا امتنعت عن التصويت على قرار مجلس الأمن رقم (2216) الصادر في أبريل 2015، والذي دعا إلى وقف دعم وتسليح الحوثيين، في خطوة مبكرة فسّرها مراقبون كدلالة على رغبة موسكو في الإبقاء على هامش تحالف سياسي محتمل مع الجماعة، دون الانخراط الكامل في الصراع حينها (١٢).
ثالثاً: الدور الصيني
رغم نفي بكين المستمر لأي صلة مباشرة بجماعة الحوثيين، فإن الوقائع المتراكمة تشير إلى تورط غير معلن – ولكنه محسوب بدقة– في دعم الجماعة عبر قنوات غير رسمية وشركات ذات استخدام مزدوج. في نوفمبر ٢٠٢٤، تم اعتراض شحنة من مكونات خلايا وقود الهيدروجين في البحر الأحمر قدمت من الصين، كانت في طريقها للحوثيين،(١٣) ويستخدم غاز الهيدروجين في تسريع الطائرات المسيرة، ويمنحها مزايا طيران أطول بثلاثة أضعاف مقارنة بالمحركات التقليدية. وفي مارس 2025، أعلنت وزارة الداخلية في الحكومة اليمنية المعترف به دولياً عن ضبط شحنة عسكرية "نوعية" كانت في طريقها من سلطنة عُمان إلى مناطق الحوثيين، تضم مستشعرات طيران متطور بالإضافة إلى ٨٠٠ مروحة دقيقة، صينية الصنع، تستخدم في المسيّرات الهجومية الدقيقة (١٤).
وبالعودة لأجزاء المسيرات المستخدمة في ترسانة الحوثيين نجد بأن الصين هي بلد المنشأ لأغلب المكونات.. وقد وثقت منظمة أبحاث التسلّح في الصراعات (CAR) من خلال فحصها ل ٦ طائرات مسيرة تم ضبطهن في مأرب، بالإضافة لحطام الطائرات المستخدمة في الهجوم على مأرب في أكتوبر ٢٠١٦، ومطار عدن الدولي في ديسمبر ٢٠٢٠، بأن المحركات المستخدمة هي من طراز (DLE) تصنعها شركة هاو شانغ للتكنلوجيا المحدودة الصينية (١٥).
وبحسب الخبراء، فإن المحركات المستخدمة في سلسلة طائرات "الصماد" و"يافا" التي يبلغ مداها قرابة ٢٠٠٠ كيلو متر لا يمكن الحصول عليها من الأسواق المفتوحة، وهو ما يجعلنا أمام افتراضين، الأول: هو أن طهران تشتري هذه المحركات وتهربها للحوثيين، والثاني، أن الحوثيين حصلوا عليها مباشرة من بكين، وفي كلا الحالتين، فإن بيع تكنولوجيا متقدمة كمحركات المسيرات بعيدة المدى لا يمكن أن يتم بدون موافقة السلطات العليا في الصين، التي تدرك حقيقة أن هذه التكنلوجيا تخدم حصراً استراتيجية النظام الإيراني المزعزع للإستقرار في المنطقة.
الأهم مما سبق، هو الدعم الفضائي والاستخباراتي الصيني، فقد فُرضت عقوبات أمريكية على شركة (Chang Guang Satellite Technology Co) الصينية، إحدى أذرع الجيش الصيني في مجال الصور الفضائية، بعد تقديمها صور أقمار صناعية عالية الدقة، استخدمها الحوثيون في تحديد مسارات (MQ-9) وتحليل نمط دورياتها الجوية (١٦). بدمج هذه الصور مع شبكات الرصد الأرضي، يمكن إنتاج خرائط ثلاثية الأبعاد دقيقة للكمائن الجوية.
ما يُعمّق هذا الربط، هو الـتنسيق الدبلوماسي بين قادة الحوثيين ومسؤولين صينيين، بالإضافة الى التنسيق المباشر الذي جمع محمد علي الحوثي مع مسؤولين صينيين ( ١٧).
يكتسب الدور الصيني طابعاً أكثر تعقيداً حين نلاحظه في سياق التحولات التجارية البحرية. في حين اختارت عشرات الشركات الغربية تحويل خطوط شحنها إلى رأس الرجاء الصالح بعيداً عن تهديدات الحوثيين، استمرت السفن الصينية في العبور من البحر الأحمر دون أن تمسّها أية هجمات. هذا النمط الاستثنائي في الحماية غير المُعلنة يُقرأ كدليل إضافي على وجود تفاهمات ضمنية بين الصين والحوثيين. من ثمار هذه الوضعية، أن الشركات الصينية، وفقاً لمؤشرات اقتصادية، ضاعفت حصتها في العديد من الأسواق، نتيجة تراجع المنافسة الغربية بسبب اضطراب خطوط الشحن والزيادة في تكاليف النقل والتأمين.
في الإطار الاستراتيجي الأوسع، يُنظر إلى اليمن باعتبارها ساحة اختبار منخفضة الكلفة للصين لاختبار أدواتها التقنية، وفهم نقاط ضعف خصمها الجوي (الولايات المتحدة). كل عملية إسقاط لطائرة (MQ-9)، إذا ترافقت مع تحليل الحطام أو رصد الاستجابة الأمريكية، تمنح بكين بيانات عملياتية غير قابلة للتكرار في بيئات سلمية، دون الحاجة إلى دخول مواجهة مباشرة.
لعل الأهم من ذلك، أن هذا النهج يتماشى تماماً مع العقيدة العسكرية الصينية المعروفة بـ "الحرب غير المتكافئة متعددة الأبعاد"، والتي تقوم على إضعاف العدو عبر أدوات اقتصادية وتقنية واستخباراتية دون إطلاق النار. عبر هذا النهج، تُمارس بكين نفوذها من تحت الطاولة، لتعيد صياغة قواعد الحرب الجوية، وتحوّل التفوق الأمريكي من واقع تقني إلى عبء تشغيلي مكشوف.
في المحصلة، لا تسعى الصين -كروسيا- للانتصار العسكري في اليمن، بل تهدف بدورها إلى نحت شروخ دقيقة داخل الصورة الذهنية للتفوق الأمريكي التكنولوجي. شيئاً فشيئاً، ومن خلال كل طائرة مسيرة (MQ-9) تسقط، تقترب بكين أكثر من تحويل الفجوة التكنولوجية من أداة ردع أمريكية، إلى ورقة ضغط صينية جديدة في ساحات الصراع المفتوح وغير المتماثل.
تحدي مفهوم "الهيمنة الجوية" في عصر الحروب الهجينة
نجاح الحوثيين في استهداف طائرات (MQ-9 Reaper) يُمثل تحولاً نوعياً في طبيعة التهديدات الجوية المعاصرة، ويطرح تساؤلات جوهرية حول مفهوم الهيمنة الجوية الذي شكّل العمود الفقري للاستراتيجية العسكرية الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة. هذا المفهوم، الذي يقوم على افتراض قدرة الولايات المتحدة على السيطرة شبه المطلقة على الأجواء في أي مسرح عمليات، يواجه الآن تحدي الاختراق غير المتماثل.
إن التكتيكات الحوثية تُجسّد ظاهرة التفوق التكتيكي المؤقت، حيث يستطيع فاعل غير دولتي، بموارد محدودة، تحقيق تفوق نسبي في مجال محدد ضد قوة عظمى. هذه الظاهرة تُعيد تعريف معادلات الردع الجوي التقليدية، وتُظهر أن الهيمنة الجوية المطلقة قد تكون مفهوماً عفا عليه الزمن في بيئة الصراعات المعاصرة.
تشير الاستجابة الأمريكية للتحديات الحوثية والإيرانية إلى تطوير جيل جديد من التكتيكات والتقنيات المضادة للتهديدات اللا متماثلة. وفقاً لتقرير "ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية لعام 2024"، تم تخصيص استثمارات ضخمة لتطوير أنظمة الدفاع ضد الطائرات المُسيّرة، خاصة تلك الصغيرة ومنخفضة التكلفة التي أصبحت تمثل تهديداً متزايداً في النزاعات الحديثة (١٨). وتشير التقارير إلى أن الجيش الأمريكي يستثمر حالياً أكثر من ١٤ مليار دولار في تطوير أنظمة دفاع متقدمة مخصصة لمواجهة هذه التهديدات (١٩).
في التفاصيل المالية المحددة، تم تخصيص حوالي 447 مليون دولار في ميزانية عام 2025 لأبحاث وتطوير وشراء أنظمة مكافحة الطائرات المُسيّرة الصغيرة (C-sUAS). من هذا المبلغ، يُخصص حوالي 140 مليون دولار لتطوير أنظمة الطاقة الموجهة، مثل الليزر عالي الطاقة والميكروويف عالي القدرة، والتي تُستخدم لتعطيل أو تدمير الطائرات المُسيّرة المعادية (٢٠).
كما تُظهر الميزانية اهتماماً متزايداً بتطوير أنظمة غير مأهولة (UAVs) وأنظمة التحكم والسيطرة المتقدمة (C4ISR)، حيث تم تخصيص 14.5 مليار دولار لهذه المجالات في عام 2024، بزيادة 12.8 مليار دولار في عام 2023 (٢١).
أبرز التطورات التقنية تشمل أنظمة الدفاع الليزري المحمولة جوياً التي تركز على تطوير أنظمة ليزر دفاعية عالية الدقة يمكن تركيبها على طائرات MQ-9 نفسها لاعتراض المسيّرات المهاجمة. نظام Advanced Test High Energy Asset الذي طورته شركة Lockheed Martin يُمثل النموذج الأولي لهذه التقنية، حيث يستطيع توجيه شعاع ليزري بطاقة 30 كيلوواط لمسافة تصل إلى 5 كيلومترات.
كما يجري تحسين أنظمة الاستشعار متعددة الطيف من خلال تطوير حساسات قادرة على رصد التهديدات من جميع الزوايا، بما في ذلك الزاوية العلوية العمياء التي استغلها الحوثيون بفعالية. نظام Multi-Domain Sensor Suite الجديد يدمج رادارات AESA مع حساسات بصرية وحرارية ومجسات صوتية، لتكوين مظلة استشعار ثلاثية الأبعاد حول الطائرة.
بالإضافة إلى ذلك، تم تطوير بروتوكولات التكتيكات التعاونية والدفاع المتشابك التي تتضمن طيران MQ-9 في تشكيلات دفاعية متكيفة محمية بطائرات مقاتلة أو أنظمة دفاع جوي محمولة جوياً. هذا النهج، الذي يُطلق عليه Manned-Unmanned Teaming MUM-T، يخلق طبقات دفاع متعددة ومتداخلة تُصعّب مهمة المهاجمين وتعزز من فعالية الأنظمة الدفاعية الشاملة.
تداعيات انتشار التكنولوجيا والمعرفة بين الجماعات الإرهابية
يشير نجاح الحوثيين في تطوير تكتيكات فعّالة ضد (MQ-9) باستخدام وسائل منخفضة التكلفة ومتاح بعضها تجارياً، إلى بداية عصر تعميم الحروب الجوية؛ حيث تصبح القدرة على تهديد الطائرات المتقدمة متاحة لفاعلين أصغر وأقل موارد. هذا التطور، الذي وصفته مؤسسة (RAND) بـ "انتشار القدرات الجوية اللا متماثلة"، له تداعيات واسعة على معادلات الاستقرار العالمي.
من المرجح أن تنتشر هذه التكتيكات بين الدول المارقة والجماعات المتطرفة، من خلال التقليد والمحاكاة أو نقل الخبرات، في مناطق الصراع المختلفة، مما قد ينتج شبكة عالمية من التهديدات الجوية اللا متماثلة. الأخطر من ذلك، إمكانية استخدام هذه التكتيكات من قبل الجماعات الإرهابية ضد الطيران المدني. سيناريوهات مثل استهداف طائرات تجارية أثناء الإقلاع أو الهبوط، أو مهاجمة مطارات مدنية، تصبح أكثر إمكانية مع انتشار هذه التقنيات والمعرفة.
يعد تسارع دورة التطوير التقني من أهم التداعيات أيضاً، حيث أصبحت سرعة تطوير التكتيكات المضادة للطائرات بدون طيار تفوق بشكل ملحوظ سرعة تطوير وسائل الدفاع التقليدية. هذه الظاهرة، التي يُطلق عليها الخبراء "الفجوة التقنية المتسارعة"، تُجبر القوات الجوية الحديثة على إعادة النظر الجذري في مفاهيمها التشغيلية وتطوير حلول سريعة ومرنة.
وفقاً للعديد من الدراسات، فإن دورة تطوير الأسلحة التقليدية التي كانت تستغرق 10-15 سنة، تُواجه الآن دورات تطوير للتهديدات المضادة تتراوح بين 6-18 شهر فقط. هذا التفاوت الزمني الهائل يخلق منافذ ضعف متكررة في الأنظمة الدفاعية التقليدية.
لمواجهة هذا التحدي، تتبنى القوات المسلحة الأمريكية مفهوم التطوير التكيفي السريع (Agile Development) المستعار من صناعة التكنولوجيا. هذا النهج يُركّز على تطوير حلول جيدة بما فيه الكفاية، يمكن نشرها بسرعة وتحديثها باستمرار، بدلاً من انتظار تطوير حلول مثالية تتطلب سنوات من العمل.
الخاتمة
ما حدث في أجواء اليمن خلال الأشهر الأخيرة، يمثل انقلاباً في معادلة التكلفة-الفعالية التقليدية للصراع الجوي. فطائرة (MQ-9)، التي تكلف حوالي 30 مليون دولار، يمكن إسقاطها بمسيرة لا تتجاوز تكلفتها بضعة آلاف من الدولارات، مما يخل بالتوازنات الاقتصادية التقليدية للحرب. هذا الاختلال يجبر القوى العظمى والدول المحورية على إعادة النظر في استراتيجياتها العسكرية، والانتقال من الاعتماد على منصات باهظة الثمن إلى تطوير أنظمة أكثر مرونة وقابلية للاستبدال.
تمثل التكتيكات الحوثية نموذجاً مبكراً لما قد يكون عليه الصراع في المستقبل: مزيج من التقنيات المتقدمة والأساليب البدائية، تستغل نقاط الضعف في الأنظمة المعقدة، وتعتمد على الإبداع التكتيكي أكثر من التفوق التقني. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن الحوثيين المدعومين من إيران يملكون الحافز السياسي والأيديولوجي لاستهداف الولايات المتحدة وإسرائيل، لكن ذلك لا يؤهلهم لإسقاط (MQ-9) لولا الدعم التقني والتكتيكي والاستخباراتي الذي حصلوا عليه من روسيا والصين تارة بشكل مباشر وتارة عبر إيران. هذا البعد الجيوسياسي يكشف عن شبكة معقدة من التحالفات غير المُعلنة والدعم غير المباشر الذي يُمكّن الفاعلين غير الدولتيين من تحقيق قدرات عسكرية متقدمة تفوق إمكانياتهم الذاتية. يتطلب هذا النموذج الجديد للصراع من القوات المسلحة الحديثة تطوير قدرات جديدة على التكيف السريع والابتكار التكتيكي، والاستعداد لمواجهة تهديدات غير تقليدية من فاعلين غير متوقعين.
في النهاية؛ وبناء على ما سبق، يبدو أن اليمن قد تحوّلت إلى مختبر جيوسياسي متقدم وساحة اختبار للمستقبل العسكري، حيث تختبر فيها القوى الكبرى أدواتها واستراتيجياتها الجديدة، بينما يُعيد الفاعلون غير الدولتيين تعريف قواعد الحرب الحديثة. هذا الصراع لم يعد مجرد نزاع إقليمي، بل أصبح مرآة للتحولات الجذرية في طبيعة تفاعلات القوة العسكرية العالمية، وانعكاساً لديناميكيات التنافس الاستراتيجي بين القوى العظمى في عصر الحروب بالوكالة.
(1) How the Houthis’ strikes on US MQ-9 Reaper drones serve a wider regional agenda, Atlantic Center, February 26, 2025, https://www.atlanticcouncil.org/blogs/menasource/houthi-strikes-on-us-mq9-reaper-drones/
(2) Iran's Arm Shipments to the Houthis Continue, a Sign of Trouble Ahead، the maritime executive، May 24, 2025، https://maritime-executive.com/article/iran-s-arm-shipments-to-the-houthis-continue-a-sign-of-trouble-ahead
(3) IRANIAN TECHNOLOGY TRANSFERS TO YEMEN , Conflict Armament Research – CAR, March 2017, https://www.conflictarm.com/wp-content/uploads/2017/03/Iranian-Technology-Transfers-to-Yemen.pdf
(4) Iranian Military Technology and Advisers Aid Houthi Attacks in Red Sea, Officials Say
، The Wall Street Journal، Updated Jan. 24, 2024، https://www.wsj.com/world/middle-east/iranian-military-technology-and-advisers-aid-houthi-attacks-in-red-sea-officials-say-6ee971f2
(5) تقييم الحملة العسكرية الأميركية ضد الحوثيين، مركز واشنطن للشرق الأدنى، ٢٨ مارس ٢٠٢٥، https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/tqyym-alhmlt-alskryt-alamyrkyt-dd-alhwthyyn?utm_source=PANTHEON_STRIPPED
(6) Assessing Russia’s Strategic Gamble with Houthi Cooperation
, RLI, December 6, 2024، https://lansinginstitute.org/2024/12/06/assessing-russias-strategic-gamble-with-houthi-cooperation/
(7) Exclusive: US intelligence suggests Russian military is advising Houthis inside Yemen، Middle East Eye، August 2, 2024، https://www.middleeasteye.net/news/exclusive-russian-military-advising-houthis-inside-yemen-us-intelligence-suggestsYemen
(8) ألقت عليها وقودا.. تفاصيل إسقاط روسيا لطائرة بدون طيار أمريكية فوق البحر الأسود، قناة cnn، ١٥ مارس ٢٠٢٣، https://arabic.cnn.com/world/article/2023/03/15/us-drone-russian-jet-black-sea
(9) Russia puts Iranian satellite into orbit, Reuters,
August 9, 2022, https://www.reuters.com/world/russia-launches-iranian-satellite-into-space-under-shadow-western-concerns-2022-08-09/
(10) Iran Benefiting from Khayyam Satellite Services ,Tasnim News Agency, August, 16, 2023, https://www.tasnimnews.com/en/news/2023/08/16/2940718/iran-benefiting-from-khayyam-satellite-services
(11) مقابلة مع ضابط يمني متقاعد عمل ضمن الوية الصواريخ في الجيش اليمني، في ١٤ مايو ٢٠٢٥.
(12) Security Council Demands End to Yemen Violence, Adopting Resolution 2216 (2015), with Russian Federation Abstaining, United Nations، 14 April 2015، https://press.un.org/en/2015/sc11859.doc.htm
(13) خلايا وقود الهيدروجين.. الحوثيون على أعتاب نقلة نوعية في قدراتهم القتالية بدعم صيني (تقرير خاص (، المجهر، 18/مارس/2025، https://www.almajhar.net/cat/under-almajhar/news22555.html
(14) الجمارك تضبط 800 مروحة طيران مسيّر في منفذ صرفيت في المهرة، موقع وزارة الداخلية اليمنية، 24 مارس 2025، https://moi-gov-ye.org/view/4788
(15) IRANIAN TECHNOLOGY TRANSFERS TO YEMEN, Weapons Research Organization (CAR), March 2017 , https://www.conflictarm.com/wp-content/uploads/2017/03/Iranian-Technology-Transfers-to-Yemen.pdf
The United States accuses a Chinese satellite company of supporting Houthi attacks on American interests، Reuters، (16) April 17, 2025 ، https://www.reuters.com/world/middle-east/us-says-chinese-satellite-firm-is-supporting-houthi-attacks-us-interests-2025-04-17/
(17) How China turned the Red Sea into a strategic trap for the US, Atlantic Center, May 5, 2025, https://www.atlanticcouncil.org/blogs/menasource/how-china-turned-the-red-sea-into-a-strategic-trap-for-the-us/
(18) OFFICE OF THE UNDER SECRETARY OF DEFENSE
(COMPTROLLER)/CHIEF FINANCIAL OFFICER, Office of the Comptroller of the Ministry of Defense, MARCH 2023, https://comptroller.defense.gov/Portals/45/Documents/defbudget/FY2024/FY2024_Budget_Request_Overview_Book.pdf?utm_source=chatgpt.com
(19) Pentagon budget 2024: C4ISR spending levels see overall increase, Defaull، 13 March 2023, https://www.janes.com/osint-insights/defence-news/defence/pentagon-budget-2024-c4isr-spending-levels-see-overall-increase?utm_source=chatgpt.com
(20) نفس المرجع السابق
(21) نفس المرجع السابق
إخلاء للمسئولية: تعبّر وجهات النظر المذكورة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المركز أو فريق العمل.
التعليقات