يكتسب تقييم دور ووضع المؤسسة النيابية في اليمن أهمية وزخماً خاصاً، لاعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في كون هذا الموضوع واحداً من الموضوعات التي من النادر أن يجري نقاش جدي حولها، رغم أن هذه المؤسسة كانت من أكثر المؤسسات التي انعكست فيها الانقسامات التي شهدتها الدولة اليمنية.
فمن الناحية الدستورية، تتبادر إلى الأذهان تساؤلات عديدة منها: هل كان بوسع البرلمان اليمني أن يملء المساحة الشاغرة في رأس الدولة؟ أم أن المؤسسة البرلمانية في اليمن كانت سبباً في إعاقة الذهاب إلى الانتخابات بتعدياتها على مواد الدستور وتعديلاته المتكررة؟! ولماذا تحول النواب من ممثلين للأمة إلى ممثلين للقوى السياسية تحت قبة البرلمان في مختلف مراحله: الموحدة والملتئمة بعد 2011 والمنشطر إلى فرقتين في المرحلة الراهنة.
واقع صعب:
من الصعب الاعتراف عملياً بوجود المؤسسة البرلمانية في اليمن منذ عام 2011. ففي اليمن كل شيء سار على غير هدى منذ ذلك التاريخ تقريباً. ومن وجهة النظر الدستورية الصرفة، تجاوزت النخب السياسية ممثلة بكتلها النيابية وتحت تأثير الجماهير وقادتها الحزبيين، ثوابت الدستور اليمني عندما قبلت التغيير في رئاسة الدولة بآلية ثورية تم تكييفها باتفاق سياسي.
وفي بلد ديمقراطي ناشئ على غرار اليمن، من الخطأ تجاوز الآليات الدستورية والمواد المنظمة للعمليات الانتخابية المؤطرة بحقب زمنية محددة. وينعكس الحال من الناحيتين الموضوعية والإجرائية على المؤسسة التشريعية/ الرقابية المنتخبة مباشرة من قبل الشعب. وعندما يتم الحديث عن غياب الدور النيابي في المرحلة الراهنة، فإن ذلك يعكس نتيجة عملية للمآل المأساوي لهذه السلطات.
لقد قضى البرلمان الحالي-مجازاً- ثماني سنوات من عمره الدستوري موحداً تحت قبة واحدة (من عام 2003 إلى عام 2011)، ثم حصل الافتراق بعد ذلك التاريخ على نحو تدريجي وصولاً إلى لحظة التشظي الكاملة عام 2015. ورغم أن البرلمان اليمني يسير برأسين وجسدين أحدهما في صنعاء محتمياً بالعاصمة كمقر حدده الدستور، والآخر في المنافي رافعاً راية الشرعية المعترف بها دولياً، إلا أنهما من الناحية العملية لا وجود لكليهما على الأرض، وإن بدا برلمان صنعاء شكلياً على المقاعد متمسكاً بأجزاء من مواد اللائحة الداخلية وبمن تبقى من أعضائه الموجودين في جزء من قاعة مطوقين بالفراغ.
قبل عام 2011، كانت الحياة النيابية تمضي على نحو طبيعي تماشياً مع نبض مواد الدستور واللوائح التنظيمية المُعدّلة. كانت القوى السياسية منضوية في إطار الكتل. لكن الأمر اختلف بعد ذلك التاريخ، حيث تشظت الكتل النيابية وبرزت إلى السطح مكونات جديدة لتعبر عن نفسها بمشاريع غير دستورية: تكتلات مناطقية وجهوية وأحياناً منضوية في إطار مجالس، وكيانات قبلية يتقاضى أعضاؤها الرواتب الشهرية الباهظة من مصادر غير معروفة.
وعقب سيطرة أنصار الله الحوثيين على مؤسسات الدولة في العاصمة صنعاء، ظهرت كتلة برلمانية جديدة برعاية أحد الأحزاب السياسية رافعة شعار فك الارتباط والعودة إلى ما قبل 22 مايو 1990.
لقد عبّرت تلك الكتلة عن نفسها بوضوح من داخل عدن لاعتبارات سياسية وجهوية بحتة، لكن بعد سنوات من تغير المشهد العام في عدن وطرد الأجنحة العسكرية لتلك القوى منها (حلفاء الرئيس السابق عبدربه منصور هادي) ارتدت تلك الكتلة النيابية إلى وضع جديد في واحدة من أغرب التقلبات البرلمانية وعادت هي نفسها من الانفصال لترفع يافطة جديدة: علم الوحدة. وفي كلا المشهدين، خسرت تلك الكتلة مصداقيتها في مربع الوحدة ومربع والانفصال معاً.
وجود شكلي:
على الناحية الأخرى، لا وجود لبرلمان الشرعية من الأساس. لكن ورغم كل هذا التباين في النسختين (الشرعية وصنعاء)، إلا أن هناك قاسماً مشتركاً يتشابهان فيه بخلاف بقية مؤسسات الدولة، وهو استلام الرواتب والمخصصات المالية. فقد التزمت سلطة الأمر الواقع بصنعاء بموازنة مالية ثابتة ومستقلة لمجلس النواب الموالي لها في صنعاء المعزز بممثلين جدد عن دوائر انتخابية مات أصحابها. وشهرياً يتقاضى النواب هناك وكافة موظفي المؤسسة التشريعية والرقابية والنواب السابقون رواتبهم بانتظام بما في ذلك العلاوات وبدلات حضور الجلسات واللجان.
الحال ذاته بالنسبة لبرلمان الشرعية، فلا مقر لأعضائه ولا جلسات ولا مدينة واحدة تجمعهم، غير أنهم يتقاضون مستحقاتهم المالية بشكل منتظم بما في ذلك بدلات السفر وغيرها. ولم يعد هناك صوت يكافح من أجل استحقاقات دستورية تقضي بدفع رواتب الجهاز الوظيفي للدولة، وإن كان ذلك لا ينفي أن ثمة أصواتاً تبرز هنا أو هناك لصالح هؤلاء المعذبين، لكنها في كل الأحوال غير مسموعة وفردية.
وعلى امتداد عشرين عاماً من عمر البرلمان اليمني، تعاقبت أجيال على المقاعد الشاغرة فيه، وباتت الدفعات الجديدة منه تنظر إلى من تبقى من برلمان 2003 بنوع من التقدير مثل أي قيمة تراثية. إذ لم يتح لأي برلمان في عالم المؤسسات وتاريخها النيابي مثلما أتيح لبرلمان اليمن المنتخب عام 2003 من الفرص.
غير أن السمة التي باتت تميزه عن سواه هي "الكيد الحزبي" والعبث. فقد قام أعضاء البرلمان الدائمون بتعديل الدستور مراراً، وعرقلت القوى السياسية عبر كتلها النيابية إجراء الانتخابات واعتمدت لأعضائها استحقاقات مالية يتقاضونها كل شهر في حال خسروا مقاعدهم في أي انتخابات.
مخالفة دستورية:
انعقد برلمان الشرعية مرتين: الأولى في سيئون والأخرى في عدن. أما في صنعاء، فقد كان انعقاد الجلسات قائماً لكن بثلة قليلة لم ترق مرة واحدة إلى النصاب. ولم تفرق الأحزاب السياسية في اليمن بين ما هو دستوري وبين ما هو حزبي، بشكل أدى في النهاية إلى تحول الكتل النيابية في البرلمان إلى أدوات في أيدي قيادات الأحزاب.
وفي الحالتين، يلتقي الفريقان أيضاً في ثابت واحد وهو انتهاك الدستور. فمثلاً، لا يجوز دستورياً أن يجمع عضو مجلس النواب بين عمله النيابي (الرقابي) وبين أي موقع في الحكومة أو أي وظيفة تنفيذية، إلا أن ذلك لم يحدث على أرض الواقع، حيث كان هناك من النواب من تولى وظائف تتقاطع مع الدستور، على غرار المحافظين والسفراء وقادة الألوية وغير ذلك.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إنه من خلال هذا السرد الموجز عن حال الوضع النيابي في بلد تمزقه الصراعات كاليمن، نستطيع استنتاج عدد من الملاحظات الرئيسية التي يتمثل أبرزها في:
1- تتحمل الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان المسئولية التاريخية عن هذا المصير الكارثي الذي آلت إليه الأوضاع في اليمن.
2- هناك ازدواجية تبدو واضحة في مواقف معظم القوى والمكونات السياسية تجاه الدستور من الناحية النظرية، حيث أن القوى التي جمّدت العمل بالدستور في عام 2011 واستبدلته باتفاقيات وآليات جديدة هي نفسها القوى التي عادت لاستعادته من الأرشيف في عام 2015، وهو ما يعني أن هذه القوى كانت تسعى باستمرار إلى توظيف الدستور بما يخدم مصالحها ويدعم حساباتها ومواقعها ضمن التوازنات السياسية القائمة.
3- تعتبر الصورة المؤسسية النيابية لكلا المجلسين شكلية فقط، وعلى الرغم من مرور أعوام عديدة، لم يناقش أي منهما ولم يقرا الموازنة المالية السنوية للحكومتين.
4- يسير البرلمان اليمني بشقيه إلى مزيد من التشظي على مستوى الكتل النيابية الموجودة والتي تعكس مواقفها أجندات الأحزاب والقوى السياسية.
5- يتعامل أعضاء البرلمان في وضعه الحالي (بشقيه) مع المؤسسة الرقابية والتشريعية باعتبارها مؤسسة إعاشة، ومع حياتهم النيابية باعتبارها تاريخاً من الماضي.
إخلاء للمسئولية: تعبّر وجهات النظر المذكورة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المركز أو فريق العمل.
التعليقات