الرئيسية تقديرات حالة حرجة : تذبذبات أسعار الصرف في اليمن
تقديرات برنامج الدراسات الاقتصادية

حالة حرجة : تذبذبات أسعار الصرف في اليمن

لا يوجد إجماع في الأدبيات المصرفية على العوامل المحددة لاتجاهات أسعار الصرف وتقلباتها، لكن في الغالب يتم تقسيمها إلى عوامل اقتصادية حقيقية كالتضخم والناتج المحلي الإجمالي والموازنة العامة للدولة وحجم الواردات والصادرات، وعوامل اقتصادية نقدية كسعر الفائدة وعرض النقود وميزان المدفوعات وحجم الاحتياطيات من العملة الأجنبية وتدخلات البنك المركزي، وعوامل غير اقتصادية كالتطورات السياسية والنفسية والتوقعات والضغوط والحروب والمشاكل السياسية.

أولاً: أبعاد التدهور الاقتصادي

تراكمت الأسباب التي أدت إلى تدهور قيمة العملة الوطنية في اليمن، يمكن تناول أبزرها على النحو التالي:

تداعيات الإنقلاب الحوثي: ولا شك أن انقلاب جماعة الحوثي على الدولة في سبتمبر 2014 وما آلت إليه الأوضاع في البلاد من حرب ودمار واختلالات اقتصادية كبيرة، وشحة موارد الدولة من العملات الأجنبية بسبب انخفاض صادرات النفط وتوقف صادرات الغاز، وصادرات الإنتاج السمكي والزراعي، وتعطل السياحة، وتوقف الإنتاج المحلي بكافة أشكاله، والنقص الكبير في موارد الدولة من النقد الأجنبي من المنح والقروض والمساعدات التي كانت تأتي من الدول والصناديق والهيئات الدولية، وانخفاض تحويلات المغتربين، إضافة إلى استيلاء الحوثيين على أغلب الاحتياطيات الأجنبية التي كانت متوفرة قبل الانقلاب، كل هذا أثر سلبا على قيمة العملة المحلية.

تراجع الثقة في القطاع المصرفي: في منتصف العام 2016م عصفت بالقطاع المصرفي أزمة سيولة حادة كانت نتيجة طبيعية لعدة أسباب أهمها، انعدام الثقة بالجهاز المصرفي بعد استيلاء الحوثيين على السطلة وبقاء البنك المركزي اليمني تحت سيطرتهم، وتوجه السيولة النقدية بالريال إلى الصرافين وانخفاضها لدى البنوك، ما أدى إلى تكدس كتلة نقدية ضخمة لديهم وعدم انتظام الدورة النقدية وعودتها مرة أخرى للبنك المركزي اليمني.

انتعاش الاقتصاد الموازي والسوق السوداء:  كثر المضاربون بالعملة وانتشروا بشكل مخيف دون أي ضوابط رقابية، وفتحت المئات من محال الصرافة وشبكات التحويلات المالية المحلية، والتي تتنافس في تقديم أفضل العروض لشراء العملات الأجنبية بأعلى سعر لصالح جهات مستفيدة من الصراع القائم، وتحويلها وتهريبها إلى خارج اليمن. وبعد نقل عمليات البنك المركزي إلى عدن من قبل الشرعية بقرار جمهوري في أغسطس 2016، احتفظ الحوثيين بالبنك المركزي في صنعاء الذي أصبح بنك موازي خاص بهم، وهذا الامر أدى إلى انقسام السلطة النقدية والمالية في البلاد، وتعقيد المشهد الاقتصادي وتعدد المسؤوليات، ودخول الحرب الاقتصادية في الواجهة.

سياسيات رد الفعل الحكومية: ونتيجة لسيطرة الحوثيين على أغلب موارد الدولة المحلية وعدم توريد بعض الأطراف المنضوية تحت رداء الشرعية إيرادات الدولة إلى البنك المركزي، انخفض حجم الإيرادات العامة ولم تعد تغطي الحد الأدنى من نفقات الحكومة الشرعية، ما أدى إلى زيادة عجز الموازنة العامة للدولة لتضطر الحكومة الشرعية لتمويل هذا العجز عن طريق الطبع والإصدار النقدي. وكنتيجة حتمية لما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية التي أفرزتها الحرب وصل سعر صرف الدولار مطلع العام 2018 رقم قياسي في حينه عندما تجاوز عتبة 500 ريال/ دولار، لتعلن المملكة العربية السعودية بدعم العملة المحلية بوديعة للبنك المركزي اليمني 2 مليار دولار.

غياب المنظومة المركزية وتعدد سياسات النقد: لعل من أبرر الأسباب التي ساهمت في انهيار قيمة الريال اليمني، هو الاثار الكارثية الناتجة عن قرار الحوثيين منع تداول الطبعة الحديثة نهاية العام 2019، هذا القرار ولد عدة مشاكل اقتصادية منها إحداث خلل وعدم توازن في العرض النقدي بين المحافظات وتسرب النقد المطبوع حديثا من مناطق سيطرة الحوثيين إلى مناطق سيطرة الحكومة الشرعية، كما شجع  القرار على المضاربة بالعملة وأوجد فوارق في سعر صرف الريال اليمني بين الطبعة القديمة في مناطق الانقلاب والطبعة الحديثة في مناطق الشرعية، وارتفاع سعر الصرف في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية بفارق 20% في بداية الأمر حتى وصل مؤخرا إلى 250% عن أسعار الصرف في مناطق سيطرة الحوثي، إضافة إلى ارتفاع تكلفة عمولة الحوالات الواردة إلى مناطق الحوثيين من مناطق الشرعية خصوصاً إلى صنعاء.

ثانياً : محاولات الانعاش

ساهمت الوديعة السعودية سابقة الذكر بشكل كبير في استقرار أسعار الصرف خلال فترة استعمالها لتغطية فاتورة استيراد السلع الأساسية بأسعار أقل من سعر السوق حيث استقر سعر الصرف نسبيا في مناطق الشرعية بزيادة 20% عن مناطق الحوثيين، مع تذبذبات ناتجة عن عوامل نفسية يتحكم بها المضاربون بالعملة وتوجهها الأحداث السياسية المحلية التي تطورت في عام 2020، خصوصا الأزمة السياسية بين المجلس الانتقالي والحكومة الشرعية التي أجبرت على مغادرة عدن في حينه، إضافة إلى جائحة كورونا وقرب نفاد الوديعة السعودية، هذه التطورات ألقت بظلالها على سعر الصرف، حيث عاود بالارتفاع بشكل تدريجي ليتجاوز الدولار 800 ريال/ دولار في نهاية العام 2020 ، ومع بداية العام 2021 وعلى إثر نشر وتداول تقرير الخبراء الدوليين الذي اتهم الحكومة اليمنية وبنكها المركزي بالفساد وغسل الأموال عند استعمال الوديعة السعودية (تراجع عن هذا الاتهام في تقريره التالي في عام 2022)، بدأ سوق الصرف يفقد الثقة بالبنك المركزي اليمني حيث قفز صرف الدولار إلى 870 ريال/دولار كمتوسط بزيادة 70 ريال خلال شهر فبراير 2021.

في نهاية العام 2021، ورغم تبني البنك المركزي اليمني فكرة جديدة للتدخل في سوق الصرف عن طريق مزادات بيع العملة وتبني الحكومة الشرعية بعض الاصلاحات، شهد الريال اليمني أسوأ انهيار له على مر التاريخ حين تعدى الدولار حاجز 1700 ريال/ دولار في بداية ديسمبر 2021، والذي فيه تم الإعلان عن قرار إعادة تشكيل مجلس ادارة البنك المركزي اليمني، وتغيير محافظ شبوة، وعلى إثر هذه القرارات إضافة إلى الإفصاح عن وديعة سعودية جديدة قادمة على لسان رئيس الوزراء د. معين عبدالملك، هبط سعر صرف الدولار الأمريكي من 1700 إلى ما دون الألف، ثم ظل يتأرجح بين 1100 إلى 1250 ريال/ دولار خلال الثلاثة الأشهر الأولى من عام 2022.

وبعد الاعلان عن نقل السلطة في اليمن إلى مجلس قيادة رئاسي في أبريل 2022، والذي رافقه الإعلان عن دعم سعودي اماراتي بـ 3.3 مليار، هبط صرف الدولار مرة أخرى إلى 900 ريال/دولار تقريبا ثم عاد ليستقر نسبيا عند 1170 ريال/ دولار كمتوسط خلال بقية العام الذي شهد العديد من التطورات والاحداث الاقتصادية والسياسية كان أهمها هجوم الحوثي بالمسيرات على موانئ تصدير النفط في أواخر العام الماضي - 2022، وأحرم الحكومة الشرعية من أهم مورد مستدام يرفد خزينة الدولة بالعملة الصعبة لتغطية فاتورة الاستيراد ومواجهة التزاماتها المحلية.

ثالثاً : دوافع عدم استقرار  سعر الصرف

ومع استمرار البنك المركزي في بيع المزادات بأسعار قريبة من أسعار السوق، استقر سعر صرف الدولار عند متوسط 1250 تقريبا خلال الأشهر الأولى من عام 2023، غير أن هذا الاستقرار لم يدم طويلا حيث بدأ سعر الدولار بالتحرك صعودا وفقد الريال اليمني أكثر من 11% من قيمته بفعل عديد من العوامل والأسباب ويمكن إيجازها فيما يلي:

أسباب اقتصادية:

فقدت الحكومة اليمنية خلال تسعة أشهر منذ بدء هجمات الحوثيين على موانئ تصدير النفط أكثر من 1.5 مليار دولار بحسب تصريح محافظ البنك المركزي اليمني على الفضائية اليمنية الأسبوع الماضي، أضف إلى ذلك، وبسبب تحويل سفن النفط والبضائع إلى ميناء الحديدة فقدت الحكومة اليمنية أكثر من 700 مليار ريال كضرائب ورسوم كانت تأتي عن طريق ميناء عدن قبل تحويل مسار السفن إلى ميناء الحديدة.
زيادة الطلب على النقد الأجنبي بشكل ملحوظ لتغطية نفقات الحج هذا العام 1444
تأخر الدعم السعودي الخاص بالموازنة العامة للدولة لتعويض إيرادات النفط المتوقفة رغم استمرار المفاوضات بشأن ذلك.


أسباب سياسية وعوامل نفسية

  • اشتداد حدة التجاذبات السياسية لدى الأطراف الممثلة للشرعية واعلان محافظ عدن عدم توريد الإيرادات للبنك المركزي، وهجوم الانتقالي على رئيس الحكومة اليمنية.
  • تعثر مفاوضات السلام التي تقودها السعودية مع الحوثيين.
  • نشر اخبار غير دقيقة بشأن افلاس الدولة وبنكها المركزي ونفاد الاحتياطات وعدم القدرة على سداد المرتبات وتداولها بشكل واسع.
  • نشر وتداول أخبار مظللة بإدخال البنك المركزي اليمني عن طريق ميناء عدن حاويات تحتوي على أموال مطبوعة حديثا لتغطية عجز الموازنة العامة للدولة.
  • استغلال المضاربين بالعملة والحوثيين وأطراف سياسية أخرى للعوامل السابقة لرفع سعر صرف الدولار لتحقيق مكاسب مادية وسياسية.
  • استمرت العوامل السابقة سارية المفعول خلال الفترة من بداية مايو وحتى اواخر يوليو الماضي، وبحلول عيد الأضحى المبارك وصل سعر صرف الدولار قبل اجازة العيد الى 1372 ريال/ دولار.

ورغم إن معظم العوامل سابقة الذكر لم تعد قائمة اليوم، حيث نفى البنك المركزي الاخبار المضللة الخاصة بافلاس الدولة أو نفاد احتياطياته من العملات الأجنبية أو إدخاله لأي أموال مطبوعة حديثا وتأكيده استمراره في تنفيذ مزادات بيع العملة ودفع المرتبات رغم توقف صادرات النفط وعدم سماحه بتغطية العجز من مصادر تضخمية إضافة إلى استلامه الدفعة الثانية من حقوق السحب الخاصة، كما تم خفض التوترات السياسية لدى الأطراف المكونة للشرعية، واعلان محافظ عدن التراجع عن قرار عدم توريد الإيرادات، إضافة إلى انتهاء موسم الحج لهذا العام وعودة الطلب على العملة للوضع السابق، وقرب الاتفاق مع الجانب السعودي لاستلام الحكومة اليمنية الدفعة الأولى من دعم الموازنة،  ورغم ذلك ظل سعر الصرف في أعلى مستوى له في ظل ادارة البنك الحالية، بل وبدأ بالصعود تدريجيا مرة أخرى بعد اجازة عيد الاضحى حيث تعدى سعر صرف الدولار مؤخرا حاجز 1500 ريال لكل دولار.

إن المتتبع في تطورات أسعار الصرف في اليمن خلال فترة الحرب وحتى اليوم، سيجد أن العوامل النفسية والمضاربين والأحداث السياسية ووسائل التواصل الاجتماعي عوامل أساسية تؤثر في أسعار الصرف، بل وتتغلب على العوامل الاقتصادية الحقيقية – المالية والنقدية، إضافة إلى ذلك يتضح جليا استعمال المضاربين بالعملة والحوثيين وأطراف سياسية أخرى تندرج تحت مضلة الشرعية الأخبار السلبية للدفع باتجاه رفع أسعار الصرف في مناطق الحكومة الشرعية لتحقيق مكاسب مادية للمضاربين وسياسية للحوثيين والأطراف الأخرى.

رابعاً : حلول مقترحه   

  • لتحقيق الاستقرار في سعر الصرف، ينبغي تحييد البنك المركزي عن الصراع، وتركه يمارس وظائفه ومهامه واختصاصاته بعيدا عن التجاذبات السياسية.
  • يجب على الحكومة الشرعية وبالتنسيق مع المجتمع الدولي استعادة مواردها المالية المفقودة، سواء إيرادات النفط المتوقفة بسبب هجمات الحوثيين، أو تلك التي استولى ولازال يستولي عليها الحوثيين من مؤسسات الدولة المختلفة كالاتصالات والموارد الضريبية والجمركية، أو تلك التي ذهبت مؤخرا إلى الحوثيين عن طريق ميناء الحديدة وفقدتها الحكومة الشرعية.
  • في حال تأخر أو تعذر ما سبق، ينبغي على الحكومة الشرعية الإسراع في تعويض هذه الموارد خصوصا وأن هناك مباحثات تجري في المرحلة الحالية في السعودية بشأن دعم الموازنة والتي وعدت بها الحكومة السعودية كتعويض للحكومة اليمنية من اجل الوفاء بالتزاماتها ونفقاتها الحتمية وبهدف تسهيل عملية الوصول إلى اتفاق سلام شامل مع الحوثيين في اليمن.
  • يتوجب على الحكومة الشرعية وبنكها المركزي، تفعيل الجانب الإعلامي والتنويري والتثقيفي للمواطنين والمتعاملين في سوق الصرف، وسحب البساط من المضاربين والأطراف المعادية للشرعية في التأثير على سوق الصرف، والسيطرة على الشائعات والأخبار السلبية بما يساهم في تحقيق استقرار أسعار الصرف ومنها استقرار الأسعار.

 

إخلاء للمسئولية: تعبّر وجهات النظر المذكورة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المركز أو فريق العمل.

التعليقات