حرب العقوبات: هل تنجح واشنطن في تقويض القدرة الردعية للحوثيين؟
في إطار التصعيد المستمر للتوترات بين الولايات المتحدة وجماعة الحوثيين في اليمن، أعلنت الإدارة الأمريكية في 5 مارس 2025 فرض عقوبات على ثمانية من كبار قادة الجماعة. هذا القرار جاء بعد يوم واحد فقط من دخول تصنيف الحوثيين كـ "منظمة إرهابية أجنبية" حيز التنفيذ، وهو ما يعد تحولاً كبيراً في السياسة الأمريكية تجاه الجماعة المدعومة من إيران. تعتبر هذه الخطوة بمثابة تصعيد لافت في النهج الأمريكي تجاه الحوثيين، في وقت يشهد فيه العالم تصاعداً في المخاطر الأمنية والاقتصادية التي يشكلها تهديدهم للملاحة الدولية في البحر الأحمر، بالإضافة إلى استهدافهم المباشر لأصول عسكرية أمريكية.
من خلال هذه العقوبات، تتوجه الولايات المتحدة نحو استهداف شخصيات قيادية بارزة داخل الجماعة، مثل محمد علي الحوثي، ابن عم زعيم الجماعة ورئيس اللجنة الثورية العليا، ومهدي المشاط، رئيس ما يسمى بالمجلس السياسي الأعلى، إضافة إلى محمد عبد السلام، المتحدث باسم الحوثيين وكبير المفاوضين. يشير هذا الاستهداف إلى هدف أمريكي مزدوج؛ من جهة، يسعى لتفكيك البنية القيادية للجماعة الحوثية، ومن جهة أخرى، يهدف إلى تقليص قدرتهم على اتخاذ قرارات حاسمة وفعالة على المستوى السياسي والعسكري.
تأتي هذه العقوبات في وقت حساس للغاية، حيث أن الحوثيين قد أظهروا في الآونة الأخيرة تطوراً في قدراتهم العسكرية، لا سيما في ما يتعلق باستهداف السفن التجارية في البحر الأحمر والتهديدات المتزايدة ضد القوات العسكرية الأمريكية، إضافة إلى استمرار الدعم الإيراني المقدم لهم. هذه العوامل تتزامن مع محاولات الولايات المتحدة للتعامل مع النفوذ الإيراني في المنطقة، وتحقيق استراتيجيات ردع مزدوجة تجمع بين العقوبات والضغط العسكري.
يستعرض هذا التحليل دلالات هذه العقوبات وأبعادها، من خلال النظر في السياقات المحلية والإقليمية والدولية التي أدت إلى اتخاذ هذا القرار الأمريكي. كما سنناقش التأثيرات المتوقعة على الجماعة الحوثية، وسبل تصديها لهذه الضغوط المتزايدة، بالإضافة إلى تحديد العوامل التي قد تؤثر في نجاح واشنطن في تحقيق أهدافها.
أولاً: دلالات التوقيت وأبعاد العقوبات
1. السياق المحلي: تصعيد المواجهة وتطور القدرات الحوثية
مع استمرار تصاعد التوترات في البحر الأحمر وفي المنطقة بشكل عام، اتخذ الحوثيون خطوات تصعيدية غير مسبوقة تؤكد تحولاً استراتيجياً في طبيعة مواجهاتهم العسكرية. كان أبرز هذه الخطوات:
استهداف مباشر لأصول عسكرية أمريكية: لقد شكلت الهجمات الأخيرة على الطائرات الأمريكية، من طراز إف-16 والطائرة المسيرة "إم كيو 9"، خطوة غير مسبوقة في عمليات الحوثيين. الاستهداف المباشر لهذه الطائرات العسكرية يعكس تحولاً ملموساً في استراتيجية الجماعة. هذه الهجمات تشير إلى أن الحوثيين، الذين كانوا في السابق يركزون على استهداف السفن التجارية في البحر الأحمر والأهداف العابرة للحدود، أصبحوا الآن قادرين على تنفيذ عمليات عسكرية معقدة ضد القوات الأمريكية بشكل مباشر. هذا التحول يعكس تقدماً نوعياً في قدراتهم العسكرية ويدل على درجة من الجرأة التي قد ترفع مستوى المواجهة العسكرية معهم.
بالإضافة إلى ذلك، تشير هذه الهجمات إلى أن الحوثيين قد أصبحوا أكثر استعداداً لتوسيع نطاق عملياتهم العسكرية في البحر الأحمر والمناطق المحيطة. بالتالي، فإن هذه العمليات لا تقتصر فقط على التهديدات المباشرة لأصول عسكرية أمريكية، بل قد تهدد بشكل غير مباشر استقرار التجارة العالمية في المنطقة، مما يجعل هذه العمليات أكثر أهمية بالنسبة للأمن الإقليمي والدولي.
تطور في القدرات الدفاعية والهجومية: إن القدرة على استهداف طائرات أمريكية من طراز "إف-16" وإسقاط طائرة مسيرة "إم كيو 9" تظهر أن الحوثيين قد تمكنوا من تطوير تقنيات دفاعية متقدمة. وقد يشير ذلك إلى نجاحهم في تحسين قدراتهم على التصدي للطائرات الحربية باستخدام صواريخ أرض-جو متطورة، وهو ما يضفي بعداً جديداً على معادلة المواجهات العسكرية. إن هذا التطور الكبير في القدرات العسكرية للحوثيين، سواء في المجال الدفاعي أو الهجومي، يعتبر دليلاً على الدعم المستمر الذي يتلقونه من إيران، التي توفر لهم تقنيات متطورة في مجال الصواريخ والطائرات المسيرة.
ما يعزز هذا التطور هو استدامة الدعم الإيراني، الذي يوفر للحوثيين تقنيات متطورة قد تمكنهم من تحقيق تقدم نسبي ملحوظ في مواجهة التفوق العسكري الأمريكي الشامل.
الاعتماد على استراتيجية "التصعيد للردع": الاستراتيجية التي يتبعها الحوثيون في التصعيد العسكري يمكن أن تُعتبر أداة ردع لحماية مصالحهم واستمرار قدرتهم على التأثير في الصراع. على الرغم من الضغوط العسكرية والاقتصادية التي يتعرضون لها، يظهر الحوثيون استعداداً لتوسيع نطاق هجماتهم، سواء على القوات الأمريكية أو على الأهداف البحرية، بهدف تعزيز قوتهم السياسية والعسكرية. من خلال هذه الاستراتيجية، يسعى الحوثيون إلى فرض معادلات جديدة على القوى الإقليمية والدولية.
ومع تصاعد الضغوط العسكرية من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، يبقى التساؤل قائماً حول قدرة الحوثيين على الصمود أمام هذا الضغط المتزايد، وكيف ستتأثر استراتيجيتهم العسكرية في حال تواصل التصعيد الأمريكي.
2. السياق الإقليمي والدولي: الحوثيون آخر جبهة مشتعلة في المنطقة
في ظل التطورات الأخيرة في الساحات الإقليمية، أصبحت اليمن آخر جبهة مفتوحة في مواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والحوثيين المدعومين من إيران من جهة أخرى. هذا الوضع يكتسب أهمية أكبر بسبب ما يحدث في مناطق أخرى من صراعات وهدنات.
تحييد الملفات الأخرى والتركيز على اليمن: مع التوصل إلى هدنة إنسانية في غزة ونجاح حزب الله في إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار مع إسرائيل، أصبح الحوثيون الطرف الوحيد في "محور المقاومة" الذي لا يزال في مواجهة مستمرة مع الولايات المتحدة وحلفائها. هذا الوضع يعكس تحولاً استراتيجياً يسمح للولايات المتحدة بالتركيز بشكل أكبر على اليمن، بعد أن تم تحييد جبهات أخرى مثل غزة ولبنان مؤقتاً.. وهذا التركيز الأمريكي على الحوثيين يفتح الباب أمام تصعيد عسكري واستخباراتي ضد الجماعة.
رسالة ردع موجهة إلى إيران: من خلال التصعيد العسكري والاقتصادي ضد الحوثيين، تسعى الولايات المتحدة إلى إرسال رسالة واضحة إلى إيران بأن دعمها للحوثيين له تبعات كبيرة. هذه العقوبات ليست مجرد إجراء منفصل ضد جماعة مسلحة في اليمن، بل هي جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى ردع إيران عن توسيع نفوذها في المنطقة عبر وكلائها. ومن خلال استهداف الحوثيين مباشرة، تُظهر واشنطن استعدادها لمواجهة النفوذ الإيراني عسكرياً واقتصادياً، حتى في حال استمرار الجهود الدبلوماسية لإحياء الاتفاق النووي الإيراني.
تحالف دولي ضد تهديد الحوثيين للملاحة الدولية: لقد أصبح الحوثيون يشكلون تهديداً متزايداً للملاحة الدولية في البحر الأحمر، وهي أحد أبرز الممرات التجارية العالمية. العقوبات الأمريكية ضدهم تأتي في سياق أوسع يهدف إلى تشكيل تحالف دولي لمواجهة هذا التهديد. من خلال الضغط على الحوثيين في هذا السياق، تأمل الولايات المتحدة في بناء تحالف دولي أوسع وأكثر صرامة من تحالف "حارس الازدهار"، يضم دولاً أخرى مؤثرة في التجارة العالمية والأمن البحري، مثل الدول الأوروبية والخليجية.
وهذا التعاون الدولي يهدف إلى تحسين آليات الردع ضد الحوثيين ويعزز من فرض قوانين صارمة لضمان حماية الملاحة الدولية في البحر الأحمر.
ثانيًا: البعد الاستراتيجي للعقوبات: ما الذي تسعى إليه واشنطن؟
تسعى العقوبات الأمريكية ضد الحوثيين إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية المتكاملة التي تتجاوز العقوبات المالية التقليدية، وتسعى واشنطن من خلالها إلى تغيير المعادلة العسكرية والسياسية في اليمن والمنطقة. هذه الأهداف تتمثل في إضعاف القيادة الحوثية، تجفيف مصادر تمويل الجماعة، ومنعهم من استعادة أي قدرة على المناورة السياسية. ما يميز هذه العقوبات عن غيرها هو أن تصنيف الحوثيين كـ "جماعة إرهابية" لا يهدف فقط إلى الضغط عليهم للعودة إلى طاولة المفاوضات، بل يسعى إلى القضاء على قدراتهم العسكرية والسياسية بشكل كامل.
ثالثاً: ردود فعل الحوثيين على العقوبات
من المتوقع أن تثير هذه العقوبات ردود فعل حادة من قبل الحوثيين، الذين قد يعتبرونها تصعيداً عدائياً ضدهم ويحاولون الرد بشكل عسكري أو دبلوماسي. في الجانب العسكري، قد يعمدون إلى تصعيد هجماتهم ضد القوات الأمريكية المنتشرة في المنطقة أو استهداف مصالح الولايات المتحدة في البحر الأحمر ومناطق أخرى. كما أن الحوثيين قد يوسّعون نطاق عملياتهم العسكرية لتشمل طرق الملاحة الدولية بشكل أكثر تهديداً وتهوراً، في محاولة للضغط على واشنطن للتراجع عن هذه العقوبات.
علاوة على ذلك، قد يسعى الحوثيون لتعزيز تحالفاتهم مع إيران بشكل أكبر، سواء عبر تلقي دعم عسكري أو تقني إضافي، بما يعزز قدرتهم على مواجهة الضغوط الامريكية. زيادة التنسيق مع إيران قد يكون خياراً إستراتيجياً في إطار مواجهة التصعيد الأمريكي. هذا التعاون قد يشمل ارسال المزيد من الأسلحة المتطورة مثل الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية والخبراء العسكريين والتقنيين، ما يتيح لهم توسيع نطاق تهديداتهم للأمن المحلي والإقليمي.
من الناحية السياسية، قد يعمل الحوثيون على تصعيد الخطاب الإعلامي والدعائي، محاولين تجنيد دعم جماهيري داخلي وإقليمي ضد العقوبات الأمريكية، والتمسك بموقفهم الثابت في مواجهة ما يعتبرونه "التدخلات الخارجية".
خاتمة: هل تنجح العقوبات في تغيير المعادلة؟
تمثل العقوبات الأمريكية على قيادات الحوثيين تصعيداً جديداً في المواجهة بين الولايات المتحدة والجماعة، لكنها لن تكون كافية بمفردها لإنهاء تهديد الحوثيين. ورغم أن العقوبات تساهم في تقليص الشبكات المالية والدبلوماسية للحوثيين، وتعطل قدرة الجماعة على التنقل والاتصال مع دول أخرى، إلا أن فاعليتها على المدى البعيد تعتمد بشكل كبير على تكاملها مع الضغوط العسكرية والاستخباراتية والدبلوماسية.
إن نجاح العقوبات يتطلب التنسيق بين مختلف الأدوات الاستراتيجية المتاحة. فإذا تم دعم العقوبات بإجراءات عسكرية مستهدفة، مثل تعزيز العمليات العسكرية ضد الجماعة عبر القوات الحكومية أو التحالف العربي أو التحالف الدولي، فقد تنجح واشنطن في تقييد تحركات الحوثيين وزعزعة استقرارهم العسكري. كما أن توسيع نطاق العقوبات ليشمل مزيداً من الشبكات المالية المرتبطة بالجماعة قد يقلص من قدرتها على الاستمرار في التمويل الذاتي، خاصة في ظل تدهور الاقتصاد المحلي.
أيضاً، تتطلب مواجهة الحوثيين تبني نفس التكتيكات العسكرية الدقيقة التي استخدمتها واشنطن في مواجهة قادة تنظيم القاعدة في اليمن، والتي أسفرت عن نجاحات ملحوظة في تحجيم قدرة التنظيم. على الرغم من أن الظروف تختلف، فإن الضغوط العسكرية المدعومة بالاستخبارات والتعاون مع حلفاء محليين يمكن أن تشكل عاملاً حاسماً في تقليص نفوذ الحوثيين.
ومع ذلك، يتعين أن تكون العقوبات جزءاً من استراتيجية شاملة تهدف إلى تغيير التوازنات السياسية والميدانية. قد تسهم هذه العقوبات في دفع الحوثيين إلى مراجعة حساباتهم، لكن هذا سيكون على الأرجح مساراً طويل الأمد، يعتمد على مستوى التنسيق بين القوى المحلية والإقليمية والدولية. في حال تنسيق هذه الجهود وتوسيع العقوبات لتشمل المزيد من الأطراف المتورطة في دعم الحوثيين، ستصبح العقوبات أداة فعالة وقوية لتغيير مسار الصراع في اليمن، سواء من خلال إضعاف الحوثيين بشكل جذري أو دفعهم إلى مفاوضات جادة لإنهاء التصعيد والحرب.
إجمالاً، العقوبات تمثل خطوة هامة نحو تغيير المعادلة الاستراتيجية في اليمن، لكنها بحاجة إلى تكامل مع عوامل أخرى لضمان نتائج ملموسة، ولإحداث تحول جوهري في مجريات الصراع الذي طال أمده.
The stated views express the views of the author and do not necessarily reflect the views of the Center or the work team.
Comments