الرئيسية دراسات خمسة أشهر على اتفاق بكين: ماذا حدث في اليمن؟
دراسات إتجاهات إقليمية ودولية

خمسة أشهر على اتفاق بكين: ماذا حدث في اليمن؟

عندما أعلن عن توقيع اتفاق بكين لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، برعاية صينية، في 10 مارس 2023، كانت كل التوقعات تشير إلى أن اليمن سوف يكون محور الاختبار الأول لهذا الاتفاق، وهو ما يعود إلى اعتبارات ثلاثة رئيسية:

الأول، أن اليمن تحظى باهتمام خاص من جانب طرفى الاتفاق: السعودية وإيران. إذ تعتبر بمثابة العمق الاستراتيجي للسعودية، التي تواصل جهودها الحثيثة من أجل الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة اليمنية بشكل ينهي الأزمة الإنسانية التي تتفاقم باستمرار، ويتوافق ليس فقط مع مصالحها وأمنها القومي، وإنما أيضاً مع طموحاتها التنموية ومشروعاتها الاستراتيجية الكبرى. 

في حين تعد نقطة انطلاق رئيسية لإيران تسعى من خلالها إلى تعزيز نفوذها وتمددها في منطقة الشرق الأوسط، والاقتراب من خطوط المواصلات العالمية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر، ومن ثم امتلاك أوراق ضغط في مواجهة خصومها الإقليميين والدوليين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. وعندما قال وزير الاستخبارات الإيراني الأسبق حيدر مصلحي، في أول أبريل 2015، بأن “إيران تسيطر على أربعة عواصم عربية”، فإنه كان يشير بوضوح إلى المجال الحيوي للحركة الإقليمية التي تتصورها إيران وتحاول تحقيقها عبر أدوات عديدة، مثل دعم المليشيات الإرهابية والمسلحة وتوسيع نطاق الأدوار التي يقوم بها “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري والمسؤول عن العمليات الخارجية.

والثاني، أن إيران لم تستطع، خلال العقود الماضية، أن تثبت قدرتها على الانخراط في التزامات دولية أو إقليمية صارمة. إذ أنها تمتلك خبرة في الالتفاف على المعاهدات والاتفاقيات التي توقعها مع أطراف إقليمية أو دولية. ويبدو الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران مع مجموعة “5+1” (الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا والصين وروسيا وألمانيا) في 14 يوليو 2015 مثالاً على ذلك.

إذ أنها استغلت الثغرات الموجودة في هذا الاتفاق من أجل عدم الالتزام بكثير من بنوده. وبدا ذلك واضحاً في تعاملها، على سبيل المثال، مع البند الخاص بفرض حظر على الأنشطة الخاصة بالصواريخ الباليستية، حيث واصلت إيران تطوير هذه الصواريخ، مستندة إلى أن المعايير التي يشير إليها هذا الحظر، والتي وردت في قرار مجلس الأمن رقم 2231، لا تنطبق على الصواريخ الباليستية التي تمتلكها، زاعمة أن هذه الصواريخ ليست مصممة لحمل أسلحة نووية. 

كما واصلت اختراق قرارات مجلس الأمن، مثل قرارى 2216 و2231، من خلال تهريب الأسلحة إلى المليشيا الحوثية في اليمن، معتمدة على أن القوى الدولية التي استطاعت ضبط عدد كبير من شحنات الأسلحة التي تقوم بتهريبها إلى داخل اليمن، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا، سوف تتغاضى عن هذه الانتهاكات، من أجل الحفاظ على استمرار العمل بالاتفاق النووي.

وبالفعل، ورغم ضبط هذه الشحنات التي تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن إيران تنتهك هذه القرارات، لم يتحرك مجلس الأمن ضد إيران، ولم تتجه أى قوة دولية معنية، أو طرف في الاتفاق النووي، إلى تقديم شكوى للمجلس تفيد أن إيران تتقاعس عن التزاماتها في الاتفاق النووي، بما كان من الممكن أن يساعد في تفعيل ما يسمى بآلية “SNAPBACK” أو”آلية الزناد” التي تقوم على إعادة فرض العقوبات الدولية على إيران، والتي كانت قائمة قبل الوصول للاتفاق النووي وتم تعليقها بعد إبرام تلك الصفقة.

فقد تمكنت القوات البحرية الأمريكية، وبعض قوات البحرية الأجنبية الأخرى، على سبيل المثال، من ضبط بعض شحنات الأسلحة التي كانت متجهة من إيران إلى اليمن. فخلال أول ثلاثة أشهر من عام 2023، اعترضت القوات البحرية الأمريكية والبريطانية سبع شحنات أسلحة كانت متجهة من إيران إلى معاقل المليشيا في اليمن. وقالت البحرية الأمريكية، في 2 مارس 2023، أن عمليات التعقب أسفرت عن استيلاء القوات البحرية الأمريكية والقوات الشريكة على أكثر من 5000 قطعة سلاح، و1.6 مليون طلقة ذخيرة، و7000 فتيل للصواريخ، و2100 كيلوجرام من الوقود المستخدم لإطلاق قذائف صاروخية، و30 مضاداً للدبابات، وأضافت أن الصواريخ الموجهة ومكونات الصواريخ الباليستية متوسطة المدى والمخدرات غير المشروعة قدرت بقيمة 80 مليون دولار.

والثالث، أن التوقيع على اتفاق بكين لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران توازى مع جهود وتحركات مكثفة تقوم بها أطراف عديدة إقليمية ودولية من أجل تعزيز فرص الوصول إلى تسوية للأزمة اليمنية، بشكل سوف يساهم في إنهاء الأزمة الإنسانية المتفاقمة ويعالج الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي يعاني منها الشعب اليمني بسبب الإجراءات التي تتخذها المليشيا الحوثية المتمردة.

وقد لخص الاجتماع الذي عقد في الرياض بين وزير الخارجية وشؤون المغتربين اليمني أحمد بن مبارك والمبعوث الأممي إلى اليمن هانز غروندبرغ، في 9 أغسطس 2023، مآلات الوضع الحالي في اليمن، ففضلاً عن أنه أكد أن الحكومة اليمنية تعمل كل ما يمكن لرفع المعاناة عن الشعب اليمني وتحقيق طموحاته في السلام الشامل والعادل، فقد حذر من تبعات استمرار الأزمة الاقتصادية والأوضاع الإنسانية المتردية بسبب الممارسات التي تقوم بها المليشيا الحوثية، والتي تتطلب تبني رد فعل دولي قوي ضدها.

دوافع عديدة:

إلى الآن، لم تُظهِر إيران من المؤشرات ما يفيد بأنها في وارد إجراء مراجعة لسياستها في المنطقة، وتحديداً في اليمن، بناءً على المعطيات الجديدة التي فرضها التوقيع على اتفاق بكين لاستئناف العلاقات الدبلوماسية مع إيران. بل يمكن القول إن إيران ما زالت حريصة على توجيه رسائل مباشرة إلى القوى المعنية تفيد أنها لن تجري تغييرات بارزة على مستوى سياستها الخارجية بشكل عام خلال المرحلة القادمة.

وكان قائد الحرس الثوري حسين سلامي آخر مسؤول إيراني وجه رسالة في هذا الصدد. فقد أشار، في اجتماع قادة ومسؤولي منظمة التعبية “الباسيج” في بداية أغسطس 2023، إلى أن “الهيمنة الأمريكية أفلت، وأن الولايات المتحدة فقدت مكانتها كأكبر قوة عالمية، وأن بعض حلفائها الآن باتوا يميلون نحو إيران والصين وروسيا”. وأضاف سلامي أن “كل بلد اتكأ على أمريكا قد هوى وانهار، وأن كل بلد اتكأ على إيران، مثل اليمن، قد ثبت”، في إشارة واضحة إلى استناد المليشيا الحوثية المتمرة إلى إيران باعتبارها الظهير الإقليمي الأساسي الذي يقوم بدعمها على المستويات المختلفة، حتى من قبل انقلابها على الشرعية الدستورية في 21 سبتمبر 2014.

ويمكن تفسير ذلك في ضوء دوافع عديدة: 

تبني سياسة خارجية مزدوجة: تتعمد إيران دائماً تبنى سياسة مزدوجة أو بمعنى أدق “تتحدث بأكثر من لسان” مع كل القوى الإقليمية والدولية المعنية بما يجري في منطقة الشرق الأوسط. فرغم أن التوقيع على اتفاق بكين لاستئناف العلاقات الدبلوماسية مع السعودية قوبل بترحيب من جانب مؤسسات عديدة في النظام الإيراني، فإن هناك مؤسسات أخرى، تمتلك نفوذاً لا يمكن تجاهله، كانت حريصة على عدم تبني موقف واضح إزاء هذه الخطوة، التي تسعى من خلالها السعودية إلى تعزيز فرص تحقيق السلام والاستقرار في اليمن، بشكل سوف يكون له تداعيات مباشرة على الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام.
وهنا، يمكن القول إن إيران تتعمد اتباع هذه السياسة المزدوجة، لأنها توفر لها حرية حركة أكبر وهامشاً أوسع من الخيارات، بشكل يمكن أن يساعدها، وفقاً لرؤية صانع القرار الإيراني، في الحصول على مكاسب استراتيجية عديدة من التطورات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، دون أن تضطر لتقديم تنازلات نوعية في هذا الصدد. 

وتبدو هذه الحقيقة أوضح ما تكون في موقفها من حكومة الحوثيين في صنعاء، والتي ما زالت تعتبرها “الحكومة الشرعية”، وتستضيف ممثلاً لها في طهران، وهو “السفير الحوثي” إبراهيم محمد الديلمي، الذي يحرص باستمرار على الإشارة إلى الدعم الذي تقدمه إيران للحركة في اليمن، حيث قال، في 8 مايو 2023، أى بعد توقيع اتفاق بكين بنحو شهرين، أن “إيران هى الدولة الوحيدة التي وقفت إلى جانب الشعب اليمني”.

الحرص على تشبيك الملفات: لا تفصل إيران بين نفوذها في اليمن وبين دورها الإقليمي بشكل عام. وهذا يدفعها باستمرار إلى وضع اليمن في سياق التحركات التي تقوم بها لإدارة التصعيد مع خصومها الإقليميين والدوليين. وهنا، كان لافتاً، على سبيل المثال، أن إيران باتت حريصة، خلال الآونة الأخيرة، إلى الإشارة إلى نفوذها داخل اليمن وتحديداً في صنعاء، وذلك بالتوازي مع تعثر المفاوضات التي كانت تجري حول الاتفاق النووي، مع الولايات المتحدة الأمريكية.
فقد سعت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في الفترة الماضية إلى الوصول إلى تفاهمات مع إيران تتضمن توقف إيران عن اتخاذ مزيد من الإجراءات التصعيدية في برنامجها النووية، على غرار زيادة الكميات المنتجة من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، مقابل تخفيف حدة العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية، ونقل جزأ من الأموال الإيرانية المجمدة في الخارج إلى بعض الحسابات المصرفية الموجودة في سلطنة عمان أو قطر، للإنفاق على مجالات محددة مثل الغذاء والدواء، فضلاً عن إبرام صفقة لتبادل السجناء بين الطرفين.

لكن هذه التفاهمات لم تصل إلى نتيجة تذكر حتى الآن، وهو ما يدفع إيران باستمرار إلى توجيه رسائل تصعيدية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية. وبدا ذلك جلياً في عملية استعراض القدرات البحرية التي قامت بها إيران في الفترة الأخيرة، خاصة خلال المناورات التي أجريت في 2 أغسطس 2023، وكشفت فيها عن صواريخ كروز جديدة، مثل صاروخ “أبو مهدي” الذي يصل مداه إلى 600 كيلومتر.

وكان لافتاً في السياق ذاته، أن المليشيا الحوثية حرصت بدورها على التماهي مع هذا التصعيد، حيث أكدت، في 9 أغسطس 2023، أن إرسال الولايات المتحدة الأمريكية سفن حربية وقوات إلى البحر الأحمر عمل عدائي، محذرة من أن ذلك يؤثر على حركة الملاحة. وقال عضو المكتب السياسي لجماعة “أنصار الله” علي القحوم عبر موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”: “نراقب عن كثب التدفق المستمر للقوات الأمريكية والبارجات الحربية قبالة السواحل اليمنية وباب المندب الاستراتيجي والجزر مع التموضع المؤقت في بعض القواعد العسكرية في العند وخور عميرة (محافظة لحج) وحضرموت والمهرة وسقطرى وميون في عمل عدائي مستمر ومؤامرات شيطانية تستهدف اليمن والمنطقة برمتها”. وأكد قائد قوات الدفاع الساحلي محمد القادري “استعداد قوات الدفاع الساحلي للرد والردع في حال اقتراب القوات الأمريكية من المياه الإقليمية لليمن”.

إدارة التصعيد مع إسرائيل: قد تكون اليمن بعيدة نسبياً، في الفترة الحالية، عن عمليات التصعيد بين إيران وإسرائيل، والتي تصاعد حدتها خلال المرحلة الماضية، على خلفية اتساع نطاق الخلافات بين الطرفين، حول الاتفاق النووي، وبرنامج الصواريخ الباليستية، والنفوذ الإقليمي لإيران بالقرب من حدود إسرائيل، مع سوريا ولبنان بل والأراضي الفلسطينية.
لكن ذلك التوجه قد لا يستمر في المرحلة القادمة، خاصة في حالة ما إذا وصل التصعيد إلى مرحلة غير مسبوقة، في ضوء تحفز إسرائيل لوقف حركة التطور المستمر في البرنامج النووي الإيراني، الذي ترى أنه يمثل مصدر تهديد مباشراً لها، وربما اتجاهها إلى بدء مرحلة جديدة من العمليات الاستخباراتية التي كانت تقوم بها في الفترة الماضية، واستهدفت من خلالها مهاجمة المنشآت النووية والصاروخية، والعلماء النوويين والقاعدة العسكريين الإيرانيين.

وقد بدا لافتاً في الفترة الماضية أن المليشيات الموالية لإيران في المنطقة، حرصت على تأكيد جديتها في الانخراط في أى صراع عسكري قد تكون إيران طرفاً فيه، سواء مع إسرائيل أو مع الولايات المتحدة الأمريكية.

وكانت الحركة الحوثية نفسها قد وجهت تحذيراً إلى إسرائيل بأنها “مستعدة للرد على أى هجوم قد تشنه الأخيرة”، حيث قال المتحدث العسكري باسم الحوثيين العميد يحيى سريع، في 28 أغسطس 2022، أن “القوات المسلحة اليمنية تحذر العدو الإسرائيلي من مغبة ارتكاب أية حماقة كون الإقدام عليها لن يقابل بالصمت بل بالرد المناسب”.

على ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن اليمن تبدو مقبلة على استحقاقات استراتيجية عديدة، ورغم الدفعة الإيجابية التي وفرها التوقيع على اتفاق بكين لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية، في 10 مارس 2023، فإن إصرار إيران على تبني سياسة مزدوجة، وربط نفوذها داخل اليمن بالتصعيد المستمر مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل يفرض متغيرات أخرى سوف يكون لها دور في تحديد اتجاهات ومسارات الأزمة في اليمن خلال المرحلة القادمة.

إخلاء للمسئولية: تعبّر وجهات النظر المذكورة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المركز أو فريق العمل.

التعليقات