في خطوة هي الأولى من نوعها منذ اندلاع الحرب في اليمن عام 2014، استضافت المملكة العربية السعودية يوم 15 سبتمبر 2023 وفدًا مفاوضًا من 10 أشخاص من حركة "أنصار الله" الحوثيين في أول زيارة رسمية مُعلنة يقوم بها الحوثيون للسعودية، في حضور 5 مسئولين من سلطنة عمان باعتبارها الوسيط الرئيسي في الملف اليمني، وذلك تلبية للدعوة التي وجهتها المملكة يوم 14 سبتمبر إلى صنعاء، لاستكمال الجلسات والنقاشات التي أجراها الوفد الرسمي السعودي في صنعاء برئاسة سفير المملكة في اليمن، محمد آل جابر، خلال الفترة (8 – 13) أبريل 2023، في إطار المباردة التي أطلقتها السعودية في مارس عام 2021 للتفاوض حول وقف إطلاق نار دائم وشامل في اليمن، والتوصل لحل سياسي مقبول من كافة الأطراف اليمنية المُنخرطة في الصراع.
وقد ركزت الزيارة على مناقشة عدة ملفات محورية حول عدد من القضايا والإشكاليات الإنسانية والاقتصادية والسياسية، تمحور أبرزها فيما يلي:
أولاً، حل إشكالية صرف المرتبات بما يتضمن انتظام سداد رواتب موظفي القطاع العام في جميع أنحاء البلاد. ثانيًا، فتح الموانئ والمطارات وإتاحة المجال الجوي أمام مطار صنعاء لوجهات جوية جديدة إلى جانب الأردن ومصر. ثالثًا، استئناف تصدير النفط والغاز إلى خارج اليمن، وإيداع الضرائب والإيرادات الجمركية لسفن ميناء الحديدة في الحساب المشترك بالبنك المركزي اليمني بالحديدة وفق اتفاق ستوكهولوم. رابعًا، حل أزمة ازدواج العملة بين المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين التي تعتمد العملة القديمة، وبين المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية التي تعتمد العملة المطبوعة حديثًا. خامسًا، الإفراج عن جميع الأسرى والمعتقلين. وذلك كله وصولاً إلى حل سياسي شامل يقضي بتجديد الهدنة التي توسطت فيها الأمم المتحدة، وامتدت 6 أشهر خلال الفترة (أبريل – أكتوبر) 2022.
دلالات عديدة
رغم أن مسألة نقل الحوار بين أطراف الحرب في اليمن إلى السعودية كانت مطروحة منذ عام 2015، وتكررت الدعوة بشأنها على مدار عدة سنوات خلال الأزمة، إلا أنها كانت دائمًا ما تُقابل بالرفض التام من الحوثيين، الأمر الذي جعل استجابتهم لتلك الدعوة الأخيرة تحمل العديد من الدلالات والمؤشرات، لعل من أبرزها:
1- اعتراف مُتبادل: من جانب تُعتبر دعوة المملكة السعودية وعمان للوفد الحوثي لعقد مباحثات ثلاثية في الرياض دون حضور رسمي للحكومة اليمنية المُعترف بها دوليًا، اعترافًا رسميًا من الأطراف الإقليمية بجماعة الحوثي كرقم في المشهد السياسي اليمني. ومن جانب آخر، يُمثل قبول الجانب الحوثي للدخول مع المملكة السعودية في مباحثات ومفاوضات رسمية بشأن الأزمة اليمنية، سواء خلال مباحثات الرياض أو ما سبقها من زيارة الوفد السعودي الرسمي لصنعاء، خطوة في طريق الاعتراف بالسعودية كوسيط بين الأطراف الداخلية لإنهاء الحرب، وتراجعًا للدور المباشر للمملكة في اليمن كطرف رئيسي في الحرب.
2- ترجيح كفة المسار الدبلوماسي: يمكن النظر إلى تلك الزيارة باعتبارها إحدى ثمار الاتفاق الأخير المُبرم بين السعودية وإيران -الداعم والمُمول الرئيسي للحوثيين في اليمن- في مارس 2023 بوساطة صينية. فبالنسبة لكل من الرياض وطهران، ربما وجد الجانبان أن تلك الحرب غير مُجدية بالنسبة لمصالحهما سواء في اليمن أو مع بعضهما البعض، وأن حلحلة الأزمة بالمسارات الدبلوماسبة، وفقًا لأجندتهما الخاصة ربما يكون أكثر نفعًا لاسيما على الجانب الاقتصادي. أما بالنسبة للجانب الحوثي فعلى الأرجح أثار التقارب الأخير بين الرياض وطهران مخاوف الحوثيين من تراجع الدعم الإيراني لهم، وضرورة استعدادهم لتقديم التنازلات واتباع نهج أكثر إيجابية بشأن المفاوضات للبحث عن أرضية مشتركة تحفظ لهم بعض المكاسب السياسية والاقتصادية خلال المرحلة القادمة.
3- تنامي الضغط الشعبي على الحوثي: في ضوء ما وصفه رئيس سلطة الأمر الواقع المُعيّن من قبل الحوثيين مهدي المشّاط بـ"الطابور الخامس المُتربص"[١]، شهدت المناطق الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثي خلال الفترة الأخيرة تناميًا وتصاعدًا ملحوظًا في وتيرة الغضب الشعبي والاحتجاجات المناوئة لفساد قيادات الحوثي وحالة الانفلات الأمني والتدهور الحاد في مستويات المعيشية، وسط تزايد المطالب بشأن دفع الرواتب بشكل منتظم دون أي قيود أو شروط، ووقف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وجرائم النهب والسرقة وأعمال الجباية غير القانونية.
وقد ساهم ذلك في تهديد سلطة الجماعة في مناطق نفوذها والتشكيك في مدى قدرتها على كبح جماح تلك الاضطرابات، لاسيما مع استمرار تدهور الأوضاع الداخلية وارتفاع المطالب المُنادية بالإضراب الشامل، وتنامي الخلافات الداخلية بين صفوف الجماعة على مستوى القيادات، ما دفعها للقبول بالوساطة العمانية، والدخول مع السعودية في مباحثات جدية -للمرة الأولى- لإيجاد صيغة توافقية بشأن حل الأزمة، وبحث سبل احتواء الغضب الشعبي، وتهدئة الأوضاع في الداخل.
تحديات مُرتقبة
نتيجة هذا التطور اللافت في مسار المفاوضات السعودية - الحوثية، تسود حالة من الترقب بين قطاع عريض من اليمنيين بشأن مستقبل البلاد خلال المرحلة القادمة، لاسيما أن إطالة أمد الحرب تمخض عنه العديد من التحديات التي باتت تُمثل الآن عقبة أمام سريان مفاوضات حلحلة الأزمة والتسوية السياسية بين جميع أطرافها. ويمكن تناول أبرز تلك التحديات على النحو التالي:
1- غياب الحكومة الشرعية عن المفاوضات: وسط رفض الحوثيين للدخول في أي مفاوضات مع الحكومة الشرعية، والإصرار على استمرار المباحثات مع المملكة السعودية والوسيط العماني بصورة حصرية، يعتبر غياب الحكومة المُعترف بها دوليًا عن تلك المفاوضات عقبة أمام نجاحها، وإحراز التقدم الإيجابي المرجو منها. فعلى الرغم من الموقف المُرحب والداعم من جانب الحكومة الشرعية ومجلس النواب لمحادثات الرياض، وتبني نهج مُنفتح على كافة المبادرات الداعمة لإحلال السلام الشامل في اليمن، إلا أن هذا الموقف جاء في ضوء اشتراط استناد تلك المفاوضات إلى "المرجعيات الثلاث" وهي: مخرجات المؤتمر الوطني الذي عقد بين مارس 2013 ويناير 2014، الذي تنص أبرز بنوده على إنشاء دولة اتحادية من ستة أقاليم، وقرار مجلس الأمن الدولي 2216، والمبادرة الخليجية لعام 2011، التي وضعت خريطة زمنية مُحددة لترتيب نقل السلطة في البلاد، وهو الأمر الذي ترفضه الجماعة باعتبار مخرجات تلك المبادرة لم تعد مُجدية ولا يمكن تطبيقها في الوقت الراهن بسبب تغير الإطار الزماني والمعطيات الناظمة لتلك الخريطة[٢].
2- مخاوف من نقض الحوثيين للاتفاقات: بين الترحيب والترقب، تباينت مواقف اليمنيين والمُشككين في جدوى محادثات الرياض بسبب السلوك العام المعروف عن الحوثيين مع الاتفاقات السابقة التي كان مصيرها دائمًا النقض والفشل. فهناك تشكيك في صدق نوايا الحوثيين للوصول إلى حالة سلام دائم، وترجمة ذلك إلى عمل جاد في الواقع وخطوات ملموسة، لاسيما أن المعروف عن طبيعة الحوثيين أنهم جماعة لا يجنحون للتسويات السلمية، وهو ما تدل عليه عدة مواقع سابقة من أبرزها إحباط الحوثيين لمساعي تجديد اتفاق الهدنة في أكتوبر عام 2022 التي تمت بوساطة أممية بعد الموافقة على تسليم الرواتب من قِبل الحكومة اليمنية، حيث لجأت الجماعة للتصعيد العسكري وقامت باستهداف موانئ تصدير النفط الخام في شرق البلاد، وشنت هجمات بالطائرات المُسيرة لمنع ووقف التصدير وهو ما تسبب في أزمة مالية للحكومة اليمنية[٣].
وبناء على ما سبق، هناك مخاوف من أن يكون شرط الحوثيين بشأن خروج كافة قوات التحالف، فرصة سانحة أمام الجماعة للهيمنة وبسط نفوذها في مناطق جديدة، ما يجعلها تمتلك المزيد من أوراق الضغط والقوة في مواجهة باقي القوى السياسية اليمينة وفرض شروطها، خاصة أن الجماعة تختلف عن باقي القوى والمكونات السياسية الأخرى، كونها جماعة مسلحة ويسيطر على سلوكها النزعة العسكرية.
هذا، فضلاً عن أن تسوية الأزمة بالطرق السلمية سيتطلب بالضرورة مشاركة فعالة لجميع الأطراف اليمنية في مراكز الحكم وتنظيم الانتخابات. إلا أنه بالنظر إلى الحوثيين كأقلية تفتقر إلى الشعبية، من المُرجح أن يواجهوا تحديات كبيرة في أي ممارسة سياسية أو انتخابات قادمة، مما يعرضهم لخسارة هيمنتهم الحالية، الأمر الذي يجعل من مسألة التزامهم بالحلول السلمية لتسوية الأزمة أمرًا محل شك، وبالتالي يجب أن يكون اشتراط نزع سلاح الحوثيين أحد أبرز وأهم أولوليات المرحلة القادمة، التي يجب طرحها على طاولة المفاوضات قبل التسليم بأي عملية سلام أو تسوية تُفضي بانسحاب قوات التحالف من البلاد.
3- انقسام القوى الشرعية اليمنية: من المُتوقع أن يؤدي الانقسام والخلاف القائم بين المجلس الانتقالي الجنوبي، باعتباره المكون الأكثر حضورًا ومشاركة في المجلس الرئاسي والحكومة التنفيذية، وبين باقي القوى الشرعية، إلى عرقلة أي تسوية سياسية مُرتقبة بين الحكومة اليمنية والحوثيين. إذ يعتبر القادة الجنوبيون أن قضية الجنوب هي مسألة محورية وأساسية لحل الصراع وإحلال الاستقرار في اليمن، وهو الأمر الذي يؤكده تمسك المجلس الانتقالي الجنوبي بتشكيل وفد تفاوضي للمشاركة في المفاوضات النهائية التي يتم الترتيب لها مع الحوثيين خلال المباحثات السعودية والعمانية المُنعقدة في هذه الفترة، ما يعني أن أي تفاهمات قد يغيب عنها المجلس ستكون محل رفض من جانب جميع القوى السياسية الجنوبية باعتبارها تسويات غير معنية بالقضية الجنوبية، ولا تتوافق مع مصالح المجلس الانتقالي ومشروعه السياسي[٤].
4- التنسيق بين الحوثي وتنظيم "القاعدة": على خلفية اتهام جماعة الحوثي بالتعاون والتنسيق مع تنظيم "القاعدة" الإرهابي في اليمن، وإمداده بالطائرات المُسيرة التي أصبحت مؤخرًا واحدة من أبرز وأكثر الأسلحة الاستراتيجية انتشارًا وخطورة في المنطقة، والتي يستخدمها تنظيم "القاعدة" في تقويض الأمن والاستقرار في المحافظات الجنوبية غير الخاضعة لسلطة الحوثيين في اليمن، ما يُعتبر تعزيزًا لموقف الحوثيين في التفاوض لتحقيق مكاسب أكبر، باعتبار "القاعدة" ورقة ضغط تمثل تهديدًا حقيقًيا للدولة اليمنية والدول المجاورة لها. وتستند تلك الاتهامات على عاملين رئيسيين:
الأول، أن إيران -الداعم الرئيسي لجماعة الحوثيين- تجمعها علاقة خاصة بتنظيم القاعدة، ولاتزال تحتضن أكبر وأهم قياداته، الذين من بينهم من يُرجح أنه أمير التنظيم المعروف باسم "سيف العدل". والثاني، أنه سبق وقدمت الحكومة اليمنية تقريرًا إلي مجلس الأمن الدولي يُثبت تعاون الحوثيين مع تنيظم القاعدة، وبعض الأدلة بشأن إفراج الجماعة عن عدد كبير من عناصر القاعدة، وفبركة العمليات المزعوم شنها من قبل الحوثيين ضد عناصر التنظيم، فضلاً عن إخلاء تنظيم القاعدة عدة مناطق لصالح الحوثيين لدعمهم في الالتفاف على عناصر قوات الجيش اليمني[٥].
5- إشكالية صرف الرواتب والعملة المزدوجة: تُمثل الرواتب قضية شائكة، وإحدى التعقيدات الرئيسية في مسار التسوية بين الحكومة اليمنية والحوثيين، لعدة أسباب: أولها، أن هناك خلافات حول الطرف الذي سيتحكم في الدخل الناتج عن النفط والغاز والموارد الأخرى، ويقوم بتخصيص رواتب الموظفين المدنيين والعسكريين. ثانيها، إذا كان ينبغي أن تعتمد الرواتب فقط على كشوف الرواتب القديمة لعام 2014، أو أنه ينبغي أن تشمل أيضًا الموظفين الموالين لجماعة الحوثي الذين انضموا بعد ذلك التاريخ إلى مختلف القطاعات المدنية والعسكرية، أي بعد إحلال أنصارهم بدلاً من الموظفين الذين فروا إلى مناطق سيطرة الحكومة، أو أولئك الذين رفضوا العمل مع سلطاتهم من دون مقابل. ثالثها، أن أزمة ازدواج العملة في اليمن قد شكلت عقبة جديدة أمام إشكالية التوزيع العادل للرواتب، خاصة أن المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية الشرعية، تشهد انخفاضًا حادًا في قيمة العملة المطبوعة حديثًا، في حين أن المناطق الخاضعة لجماعة الحوثيين -التي مازالت تعتمد العملة القديمة- استطاعت الحفاظ على سعر عملة مستقر نسبيًا[٦].
ختامًا، في ضوء تزامن محادثات الرياض، مع استمرار التهديدات الحوثية بين الحين والآخر بالتصعيد العسكري، وإعادة تكثيف الأعمال العدائية واستهداف المنشآت الاقتصادية السعودية الحيوية، لا يمكن تحميل زيارة الوفد الحوثي إلى الرياض بمعاني ودلالات أكثر من كونها -على الأغلب- خطوة رمزية لاحتواء وتهدئة الاضطرابات الشعبية التي تعاني منها الجماعة في مناطق سيطرتها، والظهور كقوة رئيسية وفعالة في اليمن أمام المجتمع الدولي، خاصة أن نجاح مثل تلك التسويات يتطلب في المقام الأول وجود حوار يمني – يمني، يجتمع فيه كافة أطراف الأزمة على طاولة المفاوضات لبحث سبل التسوية السلمية للحرب، ومن ثم تنازل الجانب الحوثي عن الشروط التعجيزية التي يطرحها في كل جولة محادثات، وترجمة نواياه السلمية إلى ضمانات وخطوات ملموسة في الواقع، خاصة بعد تاريخ طويل من نقض المعاهدات وإحباط مساعي السلام.
[1] قيادي حوثي رفيع يحذر المطالبين بصرف المرتبات ويصفهم بـ”الطابور الخامس”، المجهر، 6 سبتمبر، 2023، https://www.almajhar.net/13321.
[2] توفيق الشنواح، وفد حوثي يزور الرياض للتفاوض في شأن وقف الحرب، اندبندنت عربية، 15 سبتمبر، 2023، متاح على الرابط التالي: https://shorturl.ac/7bqd1.
[3] ياسر حميد، زيارة الحوثيين إلى السعودية.. هل تفتح الأفق لتسوية يمنية؟، صحيفة الأيام، 16 سبتمبر، 2023، متاح على الرابط التالي: https://shorturl.ac/7bqd7
[4] تقرير.. اتفاق طال انتظاره!، صحيفة عدن الغد، 17 سبتمبر، 2023، متاح على الرابط التالي: https://shorturl.ac/7bqdf
[5] عبد الله سلام، تقارب "الحوثيين" و"القاعدة" باليمن.. التفاف إيراني على مسعى السلام الدولي؟، منصة الحل نت الإلكترونية، 28 أغسطس، 2023، متاح على الرابط التالي: https://shorturl.ac/7bqcz
طريق اليمن إلى السلام: التحديات مستمرة وسط ذوبان الجليد بين إيران والسعودية، اليمن نت، 12 سبتمبر، 2023، متاح على الرابط التالي: https://shorturl.ac/7bqdl
إخلاء للمسئولية: تعبّر وجهات النظر المذكورة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المركز أو فريق العمل.
التعليقات