الرئيسية مقالات دولة الإصلاح في تعز: كيف يفكر الحزب، وما الذي يريده المجتمع
دولة الإصلاح في تعز: كيف يفكر الحزب، وما الذي يريده المجتمع
مقالات بدون تصنيف

دولة الإصلاح في تعز: كيف يفكر الحزب، وما الذي يريده المجتمع



تعد تعز نموذجاً مركزياً لفهم التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها اليمن منذ اندلاع الصراع الراهن، إذ تمثل فضاءً مفتوحاً لاختبار ديناميات الفاعلين المختلفين في سياق الصراع اليمني المعقد. يبرز في هذا الإطار حزب الإصلاح بوصفه القوة الأكثر تأثيراً في المدينة، سياسياً وعسكرياً واجتماعياً.
شكّلت تجربة الحزب في تعز، منذ انخراطه في جبهة المقاومة ضد جماعة الحوثي، محطة حاسمة في مسار تطوره البنيوي والوظيفي. فمع بدايات الصراع، برز كفاعل سياسي يقود معركة "استعادة الدولة"، غير أن ممارساته الميدانية والسياسية كشفت عن تحول جوهري من منطق المقاومة إلى منطق السيطرة. وقد عكست هذه التحولات أزمة أعمق في بنيته الفكرية والتنظيمية، وفي علاقته بمفاهيم الدولة والشرعية والسلطة؛ إذ اتسم أداؤه بالنزعة الإقصائية واستخدام العنف وإعادة إنتاج الاستبداد تحت شعارات التحرير والمقاومة. 
هكذا تحول الحزب تدريجيا من فاعل سياسي إلى سلطة أمر واقع، تفرض هيمنتها على المؤسسات العسكرية والأمنية، وتخضعها لمنطق الولاء التنظيمي بدلاً من الكفاءة وسيادة القانون. تجلت مظاهر السيطرة أولاً في الصراع مع العميد عدنان الحمادي، قائد اللواء 35 مدرع، الذي مثل آخر قوة ميدانية نظامية داخل تعز، وتميز باستقلالية قراره العسكري وشعبيته الواسعة، ومثلت عملية اغتياله عام 2019، خطوة أساسية لتثبيت هيمنة الإصلاح المطلقة. تلا ذلك إخراج كتائب أبي العباس، تحت ذريعة توحيد الجبهة الأمنية، بينما كانت في الواقع خطوة لإزالة أي منافس يهدد سلطة الحزب.
ونتيجة لذلك، تراجع حضور الدولة الرسمي إلى مجرد واجهة رمزية، بينما تحولت المدينة إلى ما يشبه إمارة حزبية مغلقة، تحتكر الإيرادات المحلية وتمنع تحويل الموارد إلى البنك المركزي، وتستولي على مقرات الدولة وممتلكات المواطنين. ترافق ذلك مع موجات نهب المنازل والاغتيالات السياسية والقتل خارج القانون، حتى غدت الرواية الرسمية مجرد صدى للقرار التنظيمي، تُخوّن كل صوت معارض وتتهمه بالتآمر. 
كشف هذا التحوّل هشاشة البنية المؤسسية في المدينة، وأظهر كيف يمكن للهيمنة الحزبية أن تحل محل الدولة، فتستنزف المجتمع وتقوض أي مشروع تنموي أو وطني. وفي ظل صمت مطبق لأنصار وأتباع الحزب أمام هذه الممارسات الكارثية، تحول الحزب من أداة سياسية إلى "جماعة مغلقة"، تمتلك طقوسها الخاصة ولغتها ومحاكم تفتيشها.
هذا الأمر لم يحدث بين عشية وضحاها، بل هو نتاج عملية ممنهجة من الهندسة النفسية والاجتماعية تعتمد على عدة آليات متشابكة، كاحتكار الحقيقة المطلقة أمام أعضائه، فالعضو لا يُطالب بالتفكير في صواب موقف الحزب أو خطئه، بل بالإيمان به كمسلّمة لا تقبل النقاش؛ وبناء منظومة المكافآت والعقوبات، حيث تصبح الوظائف، والامتيازات، والحماية الأمنية، بل والقبول الاجتماعي داخل الوسط المحيط، كلها مشروطة بالطاعة المطلقة. 
في سبيل ذلك، تصنع الجماعة معجماً مفاهيميا خاصاً يحول الاغتيال السياسي إلى "تصفية خائن"، والاعتقال التعسفي إلى "إجراء أمني ضروري"، ونهب الممتلكات الخاصة والعامة يصبح "تحسين لمركز المقاومة"، ليعيد الحزب بذلك برمجة إدراك أعضائه للواقع الحقيقي، ويشيطن المختلف معه لتكون كل جريمة تُرتكب ضده مجرد دفاع لمنع مؤامرة خارجية. ليعيش أفراده في حالة حرب دائمة، فالإنسان، حين يُدمج في بنية تنظيمية ضاغطة، يفقد استقلاليته الأخلاقية ويصبح مجرد ترس في آلة تستلب ملكاته النقدية ومشاعره الإنسانية، وتجعله - دون أن يدرك - متواطئا في جرائم كان بالأمس القريب يستنكرها.
في الدولة الحديثة، الحرية حق طبيعي لكل إنسان لا يمنح ولا يسحب إلا وفق القانون. لكن في النموذج الغنائمي الذي يطبقه الإصلاح، تتحول الحرية إلى "امتياز" يمنحه للموالين ويحرم منه المعارضين، فحرية التعبير، على سبيل المثال، مكفولة لمن يمدح الحزب أو يصمت عن خطاياه، لكنها جريمة لمن ينتقده، وحرية التجمع مسموحة للفعاليات الحزبية لكنها ممنوعة على الاحتجاجات المطالبة بحقوق أصيلة صادرها. 
بناء عليه، فإن الحزب لا يؤمن بالحقوق كمبدأ، بل يتعامل معها كأدوات سياسية، وهذا يجعل من المستحيل بناء دولة حقيقية، لأن الدولة تقوم على احترام الحقوق المتساوية، لا على توزيع الامتيازات المشروطة. هذه العقلية الغنائمية الانتقائية تمتد لتصيب مفهوم الوطن نفسه، فحين يحتكر تنظيم ديني/سياسي مؤسسات الدولة ويحولها إلى أدوات لخدمته، يفرغ مفهوم الوطن من معناه، ويسلب شعور المواطن بأن الدولة دولته، بل يراها دولة الحزب الذي يسيطر عليها.
بهذه البنية الفكرية الإقصائية، يصبح المختلف السياسي "نقيضاً وجودياً" لا شريكاً في الوطن، فالخلاف أو حتى الاختلاف يتحول من تعبير عن التنوع إلى تهديد يجب القضاء عليه أو تغييبه عن المشهد، سواء بالاعتقال أو الاغتيال أو استخدام العنف المباشر.
من المفارقات المأساوية أن حزب الإصلاح، الذي يقدم نفسه كبديل عن الحوثيين، يفكر بنفس العقلية الغنائمية التي يمتلكها الحوثيون. الحوثي احتل الدولة باسم "الثورة على الفساد" ثم حولها إلى إقطاعية عائلية طائفية، والإصلاح يسيطر على أجزاء من الدولة باسم "المقاومة" ثم يحولها إلى إقطاعية حزبية أيديولوجية. كلاهما لا يرى في الدولة سوى غنيمة، ويقمع المختلف، ويغلّف ممارساته بخطاب ديني.
إن التراكم التاريخي للخسائر التي مني بها الإصلاح بعد 2011، حوّل تعز من مجرد محافظة ضمن مناطق النفوذ إلى "الملاذ الأخير"، أي نقطة البقاء الوجودي وخط الدفاع الأخير الذي لا يمكن التفريط به تحت أي ظرف. ولّد هذا الوعي الزائف نزعة قمعية متطرفة، انهارت فيه الحدود الأخلاقية والقانونية.
هذا تحديداً ما يفسر الممارسات التي شهدتها تعز: الاعتقالات التعسفية؛ قمع المظاهرات السلمية؛ الاستيلاء على المؤسسات الرسمية؛ ومحاولة إسكات كل صوت نقدي. ليست هذه ممارسات "حزب واثق من نفسه"، بل أفعال "تنظيم يشعر أنه يواجه الفناء"، والفرق بينهما جوهري: الأول يتصرف من موقع القوة والثقة؛ أما الثاني فيتصرف من موقع الذعر والهشاشة.
مقابل ذلك، فإن المجتمع في تعز –بكل أطيافه السياسية والاجتماعية– لا يسعى إلى إقصاء أحد، ولا إلى الانتقام من ماضٍ سياسي، ولا إلى تصفية حسابات أيديولوجية. ما يسعى إليه، بوضوح وإصرار، هو ترميم الدولة المختطفة، واستعادة المعنى المدني للسلطة، وإعادة بناء المؤسسات على أساس القانون لا الولاء.
على حزب الإصلاح أن يدرك -وهذا جوهر الحل- أن الدعوات المتصاعدة إلى الإصلاح الأمني والإداري ليست محاولة للقضاء عليه أو تصفيته، بل هي محاولة لإنقاذ الجميع من دوامة الفوضى التي تلتهم المدينة وسمعتها ومستقبلها، وهذا يتطلب وضع خطوط واضحة ومطمئنة في آن: أن تبقى تعز مدينة لكل أبنائها، لا حكراً على تنظيم بعينه؛ أن تتحول مؤسساتها -الأمنية والمالية والخدمية- إلى أذرع للدولة لا إلى أدوات للحزب؛ أن يحترم التعدد السياسي والفكري، وأن تصان الحريات العامة، وأن تحاسب كل الأطراف -بلا استثناء- على أساس القانون.
حين يشعر الحزب أن مستقبله السياسي لا يمكن تحقيقه باحتكار العنف والقرار والموارد، ولا بالمزيد من التحصن والانغلاق، بل بالجرأة على الانفتاح، والثقة في أن الدولة العادلة هي الحامي الحقيقي للجميع، والانتقال من منطق الثكنة إلى منطق الدولة، ومن ثقافة التمترس إلى ثقافة الشراكة، حينها فقط يمكن أن يبدأ التغيير الحقيقي.
إن تعز اليوم لا تحتاج إلى منتصرين ومهزومين، بل إلى مواطنين متساوين، ولا تريد استئصال أحد، بل استئصال الفوضى التي تنهش جسدها. لا تسعى لإسقاط تنظيم، بل لإقامة دولة تحترم الجميع وتحاسب الجميع. لا تطالب بنفي الحزب من المشهد السياسي، بل بنفي منطق الميليشيا من المشهد المؤسسي. الفرق بين المطلبين هائل، وفهمه هو مفتاح الحل.
تعز، التي قاومت الحصار بشجاعة نادرة، تستحق أن تتحرر من حصار آخر: حصار الخوف الذي يحول المدينة إلى ثكنة، والمواطنين إلى رعايا، والسياسة إلى غنيمة. حين تنجح في ذلك، لن تكون قد أنقذت نفسها فحسب، بل ستكون قد رسمت طريقاً لليمن كله: طريق الانتقال من منطق الميليشيات إلى منطق المؤسسات، ومن ثقافة الغلبة إلى ثقافة المواطنة، ومن جغرافيا الانقسام إلى دولة الجميع.


 

إخلاء للمسئولية: تعبّر وجهات النظر المذكورة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المركز أو فريق العمل.

التعليقات
دولة الإصلاح في تعز: كيف يفكر الحزب، وما الذي يريده المجتمع - | مركز اليمن والخليج للدراسات