منعطف حرج: اليمن بين امكانية التوصل لهدنة أو العودة مجدداً للحرب
انتهت الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى السعودية في 18 أغسطس الجاري (2023) بعد أن التقى ولى العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في جدة. كانت العناوين العريضة للزيارة، التي التقى فيها أيضاً نظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان في الرياض، تركز على بحث العلاقات الثنائية والقضايا ذات الاهتمام المشترك، دون أن يكون هناك حديث إيراني واضح ومباشر عن الملف اليمني تحديداً، الذي يحظى باهتمام خاص من جانب السعودية لاعتبارات استراتيجية واقتصادية وإنسانية عديدة.
وقد تعدد الدعوات التي وجهت إلى إيران من أجل التدخل لتعزيز فرص الوصول إلى تسوية للأزمة اليمنية، خاصة بعد توقيع اتفاق بكين في 10 مارس الماضي لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران. وتجددت هذه الدعوات خلال زيارة عبد اللهيان إلى الرياض وجدة. لكن الرد الإيراني كان واحداً في كل الحالات، وهو أن التسوية في اليمن هى شأن داخلي، وأنها ملف خلافي بين الرياض وصنعاء التي استولى عليها الحوثيون عند انقلابهم على الشرعية المعترف بها دولياً في 21 سبتمبر 2014.
أسباب عديدة
من دون شك، فإن هذه الادعاءات التي تروج لها إيران لا تتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض، التي تشير إلى أن لإيران النفوذ الأكبر داخل اليمن، باعتبار أنها مصدر الدعم الأساسي للحوثيين على المستويات كافة، سواء ما يتعلق بتوفير مزيد من الأسلحة، أو ما يتصل بتقديم استشارات في المواجهات الميدانية مع خصوم المليشيا، أو ما يرتبط بالدعم الاقتصادي لمساعدة الأخيرة على إدارة الشئون الحياتية في المناطق التي تسيطر عليها.
لكن إيران دائماً ما تستند إلى هذا المبرر لرفض أى دعوة موجهة لها من أجل الانخراط في دعم الجهود التي تبذلها قوى عديدة من أجل إنهاء الأزمة في اليمن، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء أسباب رئيسية ثلاثة تتمثل في:
صعوبة تقديم تنازلات في الملف اليمني: يقتضي الانخراط في تعزيز الجهود المبذولة للوصول إلى تسوية للأزمة في اليمن من إيران تقديم تنازلات، باعتبار أنها صاحبة النفوذ الأول على المليشيا الحوثية التي لا تستطيع اتخاذ قرارات استراتيجية على هذا المستوى دون الرجوع إلى الوكيل الأول والأوحد. وهنا، فإن من الصعب على إيران أن تقدم هذه التنازلات، باعتبار أنها ترى الآن أنها استنزفت كثيراً من مواردها في تعزيز حضورها في منطقة الشرق الأوسط وفي دول حيوية فيها، على غرار اليمن، ولا تستطيع الاستعاضة بسهولة عن كل ما تكبدته من أجل تحقيق ذلك.
وينسحب ذلك بالطبع على الدول الأخرى التي تعزز فيها إيران نفوذها، على غرار سوريا ولبنان والعراق. وقد أشارت اتجاهات إيرانية عديدة إلى أن هذا النفوذ الذي قامت إيران ببناءه في تلك الدول على مدى السنوات الماضية هو ورقة الضغط الحقيقية التي تمتلكها في مواجهة خصومها الإقليميين والدوليين.
ووفقاً لتلك الرؤية، فإنه طالما أن إيران لم تصل بعد إلى المرحلة التي تمتلك فيها القدرة على إنتاج القنبلة النووية – باعتبار أن امتلاك هذه القنبلة يمثل عامل ردع أساسياً أمام الخصوم – فإن النفوذ الإقليمي في المنطقة هو مصدر الردع الحقيقي الذي تمتلكه إيران ولا يمكن أن تستعيض عنه طالما أن هناك قوى أخرى في المنطقة وخارجها تناوئ طموحاتها الإقليمية والنووية.
وتستند إيران في ذلك إلى اعتبارات عديدة، فعندما قامت الولايات المتحدة الامريكية بشن عملية عسكرية في بغداد في 3 يناير 2020، أسفرت عن مقتل القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، فإن الرد الإيراني كان في العراق أيضاً، حيث وجهت ضربات صاروخية ضد قاعدتين أمريكيتين بعد ذلك بخمسة أيام، بما يعني أن نفوذها الإقليمي هو الذي مكنها من الرد على قتل أحد أبرز قياداتها العسكرية في العقود الأربعة الماضية.
تقييم حدود التغيير في السياسة السعودية: إذا كانت كل التقديرات قد أشارت إلى أن اتفاق بكين الذي تم توقيعه في 10 مارس الماضي لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران سوف يكون محور اختبار لمدى إمكانية حدوث تحول في السياسة الخارجية الإيرانية لا سيما إزاء الملفات الإقليمية المختلفة، وفي مقدمتها الملف اليمني، فإن إيران بدورها اعتبرت أن هذا الاتفاق سوف يكون محوراً لتقييم اتجاهات التحول في السياسة السعودية نفسها تجاه الملفات التي تحظى باهتمام خاص من جانبها.
وهنا، فإن إيران تترقب وتتابع بدقة تطورات السياسة السعودية إزاء بعض الملفات تحديداً، على غرار ملف التطبيع مع إسرائيل، والذي تشير تقارير عديدة إلى أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تبذل جهوداً حثيثة من أجل إنجازه قبل الانتخابات الرئاسية القادمة التي سوف تجرى في العام القادم، رغم أن السعودية ما زالت مصرة على ربطه بشروط عديدة يأتي في مقدمتها إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.
ومن دون شك، فإن إيران ما زالت متمسكة بالمقاربة التي تتبناها منذ بداية توقيع اتفاقيات لتأسيس علاقات دبلوماسية بين إسرائيل والعديد من الدول العربية، وتعتمد على أنها هى المستهدف الأول من هذه التطورات، التي تسعى من خلالها إسرائيل إلى الاقتراب من حدودها وإحكام الحصار حولها، عبر تعزيز العلاقات مع العديد من دول الجوار، سواء دول عربية في الخليج العربي، مثل الإمارات والبحرين، أو دول مثل أذربيجان وتركمانستان، اللتين أسست معهما علاقات دبلوماسية في الفترة الماضية.
وهنا، فإن إيران سوف تعتبر أن إحداث نقلات نوعية في بعض الملفات، مثل الملف اليمني، قراراً مؤجلاً إلى حين استشراف ما سوف تؤول إليه التطورات على صعيد العلاقات بين السعودية وإسرائيل خلال المرحلة القادمة.
ورغم أن إيران اعتبرت أن الدول العربية الرئيسية، وفي مقدمتها السعودية، وجهت رسائل عديدة إلى القوى المعنية بما يجري في المنطقة، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، بأنها ليست معنية بالانخراط في أى حشد إقليمي يتم الإعداد له لمواجهة إيران، في إطار الأفكار التي ظهرت خلال الجولة التي قام بها الرئيس الأمريكي جو بايدن في منطقة الشرق الأوسط خلال الفترة من 13 إلى 16 يوليو 2022، على نحو اعتبرته توجهاً إيجابياً من جانب تلك الدول، فإنها ترى في الوقت نفسه أن إسرائيل لا تتوانى عن بذل مزيد من الجهود لتحقيق ذلك، حتى مع حرص الدول العربية على تأكيد أنها تتعامل مع هذه النوعية من الأفكار بما تقتضيه مصالحها الوطنية في المقام الأول، بصرف النظر عن ما إذا كان ذلك يتسامح مع مصالح وحسابات الحليف الاستراتيجي الرئيسي، وهو الولايات المتحدة الأمريكية، من عدمه.
عدم الوصول إلى لحظة التسوية: ترى إيران، على ما يبدو، أن لحظة التسوية لم تحن بعد، وتستند في هذا السياق إلى اعتبار رئيسي هو أن هناك ملفات عديدة متشابكة ويصعب الفصل بينها في الوقت الحالي، بما يعني أنه من الصعوبة حسم أحد الملفات في الوقت الذي تتعثر فيه الملفات الأخرى. وهنا، فإن إيران تعتبر أن الانخراط في الجهود التي تبذل للوصول إلى تسوية في اليمن في الوقت الذي تتصاعد فيه أزمة برنامجها النووي مع الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، وإسرائيل، لا يتوافق مع مصالحها وحساباتها في المرحلة الحالية.
ووفقاً لرؤية طهران، فإنه طالما أن هذه الملفات ما زالت مفتوحة، فإن الملف اليمني لن يشهد انفراجة كبيرة في المرحلة الحالية. إذ لابد في البداية من استشراف ما سوف تؤول إليه حالة الشد والجذب الحالية بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، والتي تتقاطع فيها التفاهمات مع إجراءات التصعيد المتبادلة، قبل أن يكون هناك قرار واضح بخصوص الملف اليمني.
ففي الوقت الذي توصلت فيه إيران والولايات المتحدة الأمريكية إلى صفقة لتبادل السجناء، أعلن عنها في 11 أغسطس الجاري، وتقضي بإفراج الأولى عن خمسة سجناء أمريكيين مقابل إفراج الثانية عن سجناء إيرانيين متهمين بانتهاك العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وحصول إيران على 6 مليار دولار من أموالها المجمدة في كوريا الجنوبية، ما زالت إجراءات التصعيد المتبادلة بين الطرفين قائمة وبقوة.
إذ عززت الولايات المتحدة الأمريكية وجودها العسكري في منطقة الخليج العربي، عبر إرسال المدمرة “يو إس إس توماس هودنر” ومقاتلات “إف-35” ومقاتلات “إف-16″، إلى جانب 3000 جندي إلى المنطقة، لحماية حرية الملاحة في مضيق هرمز ومنع إيران من احتجاز مزيد من السفن التجارية، بالتوازي مع الموافقة، في 20 أغسطس الجاري، على إفراغ شحنة النفط الإيراني التي كانت تحملها الناقلة “سويس راجان” واحتجزتها السلطات الأمريكية تطبيقاً للعقوبات المفروضة على إيران، حيث تبلغ قيمة هذا النفط نحو 56 مليون دولار.
في مقابل ذلك، أجرت إيران مناورات عسكرية أمام جزيرة أبوموسى، في بداية أغسطس الجاري، استعرضت فيها قدراتها العسكرية وكشفت فيها عن أسلحة جديدة مثل الصاروخ البحري “أبو مهدي” الذي يصل مداه إلى 600 كيلومتر، ووجهت فيها تهديدات مباشرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
إنضاج الحل
على ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن إيران ما زالت ترى أن حل الأزمة اليمنية ما زال بعيداً ومرتبطاً بشروط واستحقاقات غير متوافرة في المرحلة الحالية، في ظل التطورات المتسارعة والمتناقضة التي تشهدها الملفات الخلافية التي تحظى باهتمام خاص من جانبها. ومن هنا، فإنها سوف تعتمد على مقاربة “التسوية المحدودة” التي تقوم على منح الأولوية للملف الإنساني، وتمديد التهدئة، وحل الخلافات الفرعية العالقة على غرار ملف المرتبات الذي يحظى باهتمام خاص من جانب المليشيا الحوثية في الوقت الحالي، والتي تحاول إيران في الوقت نفسه الاستفادة من التهديدات المتجددة التي تطلقها الأخيرة ضد السعودية وقوات الشرعية من أجل إضفاء وجاهة خاصة على مقاربتها الحالية تجاه الأزمة في اليمن.
إخلاء للمسئولية: تعبّر وجهات النظر المذكورة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المركز أو فريق العمل.
التعليقات