Home Estimates أدوات مأزومة: حدود التوظيف الإيراني للحوثيين في مواجهة ضغوط البرنامج النووي
أدوات مأزومة: حدود التوظيف الإيراني للحوثيين في مواجهة ضغوط البرنامج النووي
Estimates Policy Studies Program

أدوات مأزومة: حدود التوظيف الإيراني للحوثيين في مواجهة ضغوط البرنامج النووي



تواجه إيران تصاعداً متنامياً في الضغوط الدولية المرتبطة ببرنامجها النووي، في ظل بيئة إقليمية ودولية متغيرة، وإدارة أمريكية تنتهج سياسة أكثر تشدداً تجاه طهران. وبينما تتآكل أوراق النفوذ الإيراني في المنطقة نتيجة التراجعات التي مُني بها وكلاؤها في كل من لبنان وسوريا، والانكماش المؤقت لأنشطة الجماعات الموالية لها في العراق، تجد طهران نفسها أمام معضلة استراتيجية تتمثل في ضرورة ابتكار أدوات ضغط جديدة تُعيد التوازن إلى طاولة التفاوض، وتمنع الانهيار الكامل لمعادلة الردع الإقليمية التي بنتها على مدى عقدين.
في هذا السياق، تبرز جماعة الحوثي كأحد أكثر الوكلاء نشاطاً ومرونة في يد إيران، حيث توفّر لطهران منصة عمليات غير مباشرة تمكّنها من إرباك خصومها، لا سيما في الممرات البحرية الحيوية مثل البحر الأحمر وباب المندب. ومع تصاعد التهديدات الأمريكية، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، باستخدام القوة ضد المنشآت النووية الإيرانية، اكتسبت ورقة الحوثيين أهمية مضاعفة في الاستراتيجية الإيرانية، بوصفها أداة ضغط ميدانية يمكن تفعيلها دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة.
لقد تطوّرت العلاقة بين إيران والحوثيين من مستوى الدعم السياسي واللوجستي إلى شراكة عملياتية متقدمة، جعلت من الجماعة أحد أبرز مرتكزات النفوذ الإيراني في المنطقة، خاصة في ضوء انخراطها المتزايد في الملفات الإقليمية الكبرى مثل النزاع في غزة. من هنا، تتناول هذه الورقة بالدراسة والتحليل حدود التوظيف الإيراني للحوثيين كأداة للضغط الاستراتيجي، وتأثير هذا التوظيف على مسار المفاوضات النووية بين طهران وواشنطن، في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية الراهنة.

 

دور الحوثيين في استراتيجية إيران الإقليمية
تعدّ إيران جماعة الحوثي من الأدوات الميدانية الحيوية في استراتيجيتها الإقليمية، خاصة في ظل تصاعد التوترات في الإقليم. إيران، التي تعاني من تقلص متزايد في هامش المناورة في معظم مناطق نفوذها التقليدية، تجد في الحوثيين أداة فعّالة وذات كلفة منخفضة نسبياً لتعديل موازين القوى في المنطقة. وتنظر القيادة الإيرانية إلى العمليات الحوثية، لا سيما تلك التي تستهدف الممرات الملاحية الاستراتيجية، باعتبارها رافعة ضغط تمنحها قدرة على فرض تهديدات استراتيجية مستمرة على شريان حيوي للتجارة الدولية، وهو ما يعزز موقع طهران التفاوضي في الملف النووي، مع إبراز الحوثيين كعامل قادر على زعزعة الاستقرار الإقليمي بشكل ممنهج ومستدام.
كذلك تشكل العمليات الحوثية ضد السفن التجارية المرتبطة بإسرائيل أو الغرب، وسيلة مزدوجة الأثر: فمن جهة؛ تُحدث هذه الهجمات حالة من الإرباك الأمني والاقتصادي للقوى الغربية، ومن جهة أخرى؛ تُسهم في تعزيز صورة إيران كقوة قادرة على التأثير في المعادلات الدولية عبر وكلائها دون الدخول في مواجهة مباشرة. وبهذا المعنى، لا تُعدّ جماعة الحوثي مجرد ميليشيا محلية ذات أهداف محدودة، بل فاعلاً إقليمياً يتم دمجه ضمن هندسة الردع الاستراتيجي الإيراني الشامل.
وتتجاوز طهران الاستخدام العسكري البحت للحوثيين لتوظفهم كورقة تفاوضية مرنة في إدارة علاقتها بالقوى الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة. عبر إشعال التوتر في الممرات البحرية الحيوية، تسعى إيران إلى إيصال رسالة واضحة مفادها أن استقرار هذه المسارات لن يكون ممكناً دون معالجة الملف الإيراني الأوسع، خصوصاً ملفها النووي. بمعنى آخر، تُلوّح إيران بورقة الحوثيين كمصدر تهديد دائم للتجارة العالمية، لتطرح في المقابل "ضمانات الاستقرار البحري" كورقة مقايضة مقابل تنازلات على طاولة المفاوضات النووية.
ومع ذلك، فإن هذا النمط من التوظيف ينطوي على مخاطر استراتيجية جدية. فتصعيد الحوثيين أدى إلى ردود فعل عسكرية واسعة النطاق من قبل واشنطن وحلفاؤها، وهو ما أربك الحسابات الإيرانية، ووضع مشروعها التفاوضي على المحك. كما أن الإفراط في الاعتماد على الحوثيين قد عزز صورة إيران كقوة راعية لزعزعة الاستقرار، وهو ما قد يضعف موقفها الدولي ويعزز التوجهات الداعية إلى مزيد من العزلة والعقوبات. ومن هنا، تبدو استراتيجية طهران محفوفة بالتناقضات: فهي تُنتج مكاسب تكتيكية آنية، لكنها قد تُراكم خسائر استراتيجية على المدى البعيد.

 

الحدود الاستراتيجية لاستخدام الحوثيين كأداة ضغط
رغم أن إيران تنظر إلى الحوثيين كأداة استراتيجية تمكّنها من خلط الأوراق في المنطقة، وخصوصاً في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، إلا أن هذه الورقة بدأت تواجه قيوداً متزايدة وتحديات هيكلية، مما قلّص بشكل ملحوظ من قدرتها على إحداث التأثير الاستراتيجي المطلوب. وتعود هذه القيود والتحديات إلى مجموعة متشابكة من العوامل المتداخلة، سواء على المستوى العسكري أو الدبلوماسي أو حتى من زاوية الحسابات الإيرانية الداخلية.

التصعيد العسكري الأمريكي وتهديد ورقة الحوثيين: تمثل الضربات الجوية والصاروخية المستمرة من قبل القوات الأمريكية ضد المواقع العسكرية والبنية التحتية للحوثيين تحولاً نوعياً في استراتيجية التعامل الأمريكي مع الملف اليمني. فهذه الضربات لا تُعد مجرد ردود فعل تكتيكية عابرة، بل تُظهر تحولاً استراتيجياً في السياسة الأمريكية نحو تبني نهج الردع النشط والمستمر، عبر استهداف منهجي للقدرات العسكرية والبنية التحتية اللوجستية التي يستخدمها الحوثيون في تنفيذ عملياتهم البحرية.
الرسالة الاستراتيجية هنا واضحة وحاسمة: واشنطن لم تعد تكتفي بالتحذيرات الدبلوماسية أو التلويح بالعقوبات، بل باتت تسعى بشكل عملي وميداني إلى تحييد وتقويض الورقة الحوثية كأداة استراتيجية لإيران، خصوصاً بعد أن تحولت عمليات الحوثيين إلى تهديد منهجي لخطوط الملاحة والتجارة الدولية، وأصبحت تمس المصالح الاستراتيجية المباشرة للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
وفي هذا السياق، يُنظر إلى قرار واشنطن بإرسال حاملتي طائرات أمريكيتين وتعزيز وجودها العسكري في المنطقة على أنه يتجاوز مجرد الاستعراض التقليدي للقوة. إنه تأكيد عملي على وجود مظلة ردع بحرية وجوية شاملة، تجعل من استخدام الحوثيين كأداة للضغط الاستراتيجي مخاطرة متصاعدة قد تنعكس سلباً على طهران نفسها. وقد بدأت القيادة الإيرانية، بحسب مؤشرات متعددة، تُدرك أن استمرار الرهان المفتوح على الحوثيين قد يجعلها عرضة لمواجهة مباشرة مع واشنطن، وهو سيناريو تسعى جاهدة لتفاديه.

المعضلة الإيرانية مع الحلفاء الإقليميين: في الوقت الذي تتبنى فيه إيران سياسة توسعية عبر "وكلاء النفوذ" في عدة دول، إلا أن التعامل مع الحوثيين بات يشكّل لها صداعاً إقليمياً. فدول الخليج، وعلى رأسها السعودية والإمارات، رغم رغبتها في تحييد الخطر الحوثي، لا تسعى حالياً للدخول في نزاع مفتوح يُعيد سيناريو الاستنزاف العسكري كما حدث في السنوات الماضية.
هذا الواقع يضع إيران في موقف حرج.. فهي لا تستطيع التخلي عن الحوثيين باعتبارهم جزءاً من استراتيجيتها الإقليمية، لكنها في الوقت ذاته تُدرك أن استمرار دعمهم دون حدود سيُهدد التفاهمات الهشة التي تحاول ترميمها مع دول الجوار. وبالتالي، الضغط المزدوج من الخصوم والحلفاء يجعل من الورقة الحوثية أقل مرونة وأكثر خطورة.

الحدود الداخلية واللوجستية للحوثيين: على المستوى العملياتي والميداني، يواجه الحوثيون تحديات داخلية وهيكلية لا تقل أهمية وخطورة عن الضغوط الخارجية والإقليمية. وتتنوع هذه التحديات من تآكل تدريجي في القاعدة الشعبية والحاضنة الاجتماعية، إلى تعقيدات متزايدة في مسارات التمويل والإمداد، مروراً بانكشاف المواقع الاستراتيجية والقواعد العسكرية الحيوية أمام ضربات دقيقة وموجهة، وهو ما يجعل الجماعة أقل قدرة على تنفيذ عمليات نوعية ومؤثرة دون دفع كلفة عسكرية وبشرية باهظة.
ويبدو التحول الملحوظ في قواعد الاشتباك، واعتماد واشنطن على معلومات استخباراتية دقيقة واستهداف ممنهج للقيادات ومراكز القيادة والسيطرة، قد قلّص بشكل كبير من هامش المناورة وحرية الحركة للحوثيين، الذين باتوا تحت مراقبة استخباراتية صارمة تجعل أي تصعيد عسكري جديد محسوباً بعناية فائقة، ومحفوفاً بمخاطر وخسائر استراتيجية محتملة.
وتشير تقارير متعددة إلى أن الضربات الأمريكية المتكررة قد أدت إلى تدمير نسبة كبيرة من المخزون الصاروخي والمسيّر للحوثيين، وأجبرت الجماعة على إعادة تموضع قواتها وتغيير استراتيجيتها العسكرية، مما أثر سلباً على قدرتها على شن هجمات مستدامة ومؤثرة في البحر الأحمر.

 

استراتيجية إيران بين التصعيد والاحتواء
في ظل التصعيد العسكري المتواصل والممنهج ضد الحوثيين من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، تجد إيران نفسها اليوم أمام مرحلة بالغة التعقيد والدقة من استراتيجيتها الإقليمية، خصوصاً أن تطورات الميدان بدأت تتجاوز بشكل متسارع حدود "الاضطراب المحسوب" الذي اعتادت طهران التحكم به وتوجيهه لخدمة أجندتها الاستراتيجية. فمع كل ضربة أمريكية جديدة تستهدف البنية العسكرية والقدرات العملياتية للحوثيين في اليمن، تتآكل بشكل متصاعد فعالية هذه الورقة التي طالما اعتبرتها إيران من أهم أدوات الضغط غير المباشر، سواء في ملفات التفاوض النووي المعقدة أو في معادلات الصراع الإقليمي المتشابكة.
لكن المأزق الاستراتيجي الذي تواجهه طهران اليوم لا يتوقف عند الحوثيين. فما زاد المشهد تعقيداً هو التصريحات الصريحة والمباشرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي لوّح علناً وبشكل غير مسبوق باحتمال توجيه ضربات عسكرية مباشرة لإيران، وهو تطور نوعي يعكس تحوّلاً جذرياً في لغة الردع الأمريكية من التهديد غير المباشر إلى التلويح بالمواجهة المباشرة. هذا التهديد لا يُمكن لصانع القرار في طهران أن يتجاهله أو يقلل من شأنه، لأنه ببساطة ينقل مركز ثقل التصعيد من الأطراف (الوكلاء) إلى المركز (إيران نفسها). لم يعد الأمر يتعلق فقط بتحمل تكلفة استنزاف وكلاء إيران الإقليميين، بل بدأ الحديث يدور بشكل صريح حول إيران كهدف محتمل ومباشر لأي تصعيد نوعي جديد في العمليات الحوثية، وهذا ما يفرض على القيادة الإيرانية إعادة تقييم جذرية وشاملة لاستراتيجيتها القائمة على "اللعب من الخلف؛ عبر الوكلاء.
التحدي الأكبر لإيران اليوم أنها إن استمرت في دعم الحوثيين بنفس الوتيرة، فإنها قد تفتح على نفسها باب مواجهة مباشرة مع واشنطن، وهو ما لا ترغب به، خصوصاً في ظل محاولاتها المستمرة لإعادة إحياء المفاوضات النووية وتخفيف وطأة العقوبات الاقتصادية. لكن إن قامت بتقليص دعمها لهم بشكل علني، فهي تخاطر بإضعاف موقعها الإقليمي، وتقديم إشارات ضعف لحلفائها وأعدائها على حد سواء.
تقف إيران اليوم عند مفترق طرق؛ إما أن تُغامر وتواجه المخاطر الكبرى المتمثلة في احتمالية التصعيد المباشر مع الولايات المتحدة، أو تتراجع وتخاطر بخسارة أوراقها التفاوضية تدريجياً. وفي كلتا الحالتين، لم تعد المعادلة كما كانت عليه في السابق. فالبيئة الإقليمية قد تغيرت بشكل جذري، والمجتمع الدولي لم يعد يتسامح مع استمرار سياسة الاستفزاز والتصعيد من دون ثمن، وواشنطن بدأت تتحدث بوضوح وصراحة غير مسبوقة بلغة الرد العسكري المباشر.

 

الخاتمة
تكشف القراءة التحليلية المعمّقة لمسار توظيف إيران لجماعة الحوثي عن مفارقة استراتيجية جوهرية تستدعي التأمل. فمن زاوية، تُراهن طهران على الحوثيين كرأس حربة ميدانية قادرة على إرباك المشهد الإقليمي وتوسيع دائرة الاشتباك، وفرض معادلات تفاوضية جديدة تخدم أجندتها النووية والسياسية. ومن زاوية مقابلة، تُظهر المعطيات الراهنة أن هذه الورقة بدأت تدخل مرحلة استنزاف متسارع، مع تآكل ملحوظ في قيمتها الاستراتيجية وهوامش مناورتها، سواء على المستوى العملياتي أو هامش المناورة السياسي.
إن التحولات الأخيرة في الاستراتيجية الأمريكية، المتمثلة في تصعيد نوعي وغير مسبوق بقيادة إدارة ترامب، وما صاحبها من حشد عسكري هائل في المحيط الهندي والبحر الأحمر، لا تمثل مجرد تطور تكتيكي، بل تشير إلى انقلاب جذري في قواعد الاشتباك والردع الاستراتيجي. فلم تعد واشنطن تكتفي بالردع الرمزي المحدود أو المناورات التقليدية، بل تبنت استراتيجية ردع وظيفي يهدف إلى تفكيك البنية العملياتية للأداة الحوثية واستنزاف قدراتها الصاروخية والبحرية بشكل منهجي. هذا التحول الاستراتيجي يضرب في العمق الفلسفة الإيرانية القائمة على مفهوم "الحرب منخفضة الكلفة" من خلال الوكلاء، إذ تتحول هذه المعادلة تدريجياً إلى معادلة معكوسة، حيث تتصاعد الكلفة السياسية والأمنية والاقتصادية، في ظل عجز إيران عن توفير مظلة حماية فعّالة لوكلائها، أو التنصل الدبلوماسي من تبعاتها.
تبدو إيران اليوم أمام خيارين متناقضين.. إما مواصلة الرهان على الورقة الحوثية بكل ما فيها من استنزاف وتعرية، مع خطر أن تتحول إلى ذريعة لتصعيد عسكري مباشر ضدها، أو إعادة ضبط إيقاع أدواتها الإقليمية، والبحث عن صيغ أكثر مرونة وواقعية في التعاطي مع الاستحقاق النووي، خصوصاً في ظل إدارة أمريكية تلوّح بالعصا أكثر مما تلوّح بالجزرة.

The stated views express the views of the author and do not necessarily reflect the views of the Center or the work team.

Comments