Home Articles أبعاد ودلالات استهداف واشنطن لميناء رأس عيسى النفطي
أبعاد ودلالات استهداف واشنطن لميناء رأس عيسى النفطي
Articles Economic Studies Program

أبعاد ودلالات استهداف واشنطن لميناء رأس عيسى النفطي


في تطور نوعي ضمن مسار التصعيد الأمريكي ضد جماعة الحوثي في اليمن، شنّت القوات الأمريكية ضربات جوية مركّزة استهدفت ميناء رأس عيسى النفطي في محافظة الحديدة، في واحدة من أعنف العمليات منذ بدء الحملة العسكرية الأخيرة. هذه الضربات لا تندرج فقط ضمن إطار الردع العسكري، بل تحمل أبعاداً استراتيجية عميقة، كونها تضرب عصباً مالياً ولوجستياً شديد الأهمية ضمن الاقتصاد الحربي للحوثيين، وتوجه في الوقت ذاته رسائل صارمة لإيران، التي تدير نفوذها الإقليمي عبر أدواتها في اليمن.


ميناء رأس عيسى لم يكن مجرد منشأة نفطية، بل نقطة ارتكاز استراتيجية متعددة الوظائف. يقع الميناء شمال الحديدة، ويتميز بمنصة تحميل عائمة بعيداً عن الشاطئ، ما يجعل من عمليات الشحن والتفريغ أكثر سرّية وصعوبة في التتبع، خاصة في ظل ضعف الرقابة الدولية. قبل اندلاع الحرب كان هذا الميناء قادراً على تصدير ما يصل إلى 200 ألف برميل يومياً، وتخزين ما يقارب 3 ملايين برميل من النفط. وقد أصبح لاحقاً شرياناً حيوياً لتوريد النفط الإيراني إلى مناطق الحوثيين، حيث كانت تصل شهرياً شحنات تُقدَّر قيمتها بـ 35 مليون دولار شهرياً، المردود المالي الناتج من هذه التجارة غير الرسمية أصبح مصدر تمويل رئيسي للجماعة، التي تُحقق من تجارة المشتقات النفطية أرباحاً شهرية تتراوح بين 80 و130 مليون دولار، تُستخدم في تمويل العمليات العسكرية، وشراء الولاءات، وتمويل شبكات أمنية وإعلامية داخل وخارج اليمن.


إضافة إلى ذلك، اكتسب الميناء بُعداً عسكرياً حيوياً، مع تحوله إلى موقع متقدم يضم معدات بحرية وزوارق مسيرة وألغام بحرية.. هذه المنظومة منحت الحوثيين قدرة عالية على المناورة البحرية واستخدام الميناء كقاعدة تهديد استراتيجية قرب ممرات التجارة الدولية في البحر الأحمر.


من هذا المنطلق، فإن الضربة الأمريكية التي دمّرت الميناء جاءت كصفعة مزدوجة، اقتصادية وعسكرية. الخسائر لم تكن بسيطة، إذ تشير التقارير إلى مقتل وإصابة أكثر من 200 شخص، بينهم عمال وفرق إنقاذ، إضافة إلى دمار شبه كامل في البنية التحتية التشغيلية للميناء، من خزانات وقود إلى معدات التحميل والتفريغ، مما يعني أن الحوثيين خسروا أحد أهم مصادر تمويلهم ووسائلهم اللوجستية. 


التأثير المتوقع لهذه الضربة يتجاوز إطارها الزمني المباشر، حيث من المرجّح أن يؤدي إلى شلل مؤقت، وربما طويل الأمد، في قدرات الحوثيين على استقبال النفط وتوزيعه، وبالتالي ضعف قدرتهم على تمويل الحرب، خاصة في ظل غياب بنى تحتية بديلة قادرة على تعويض الخسارة. ميناء الحديدة، الذي كان يُعد البديل المحتمل، تضرر هو الآخر مؤخراً نتيجة ضربات إسرائيلية، مما يزيد من تعقيد البدائل المتاحة. وفي غياب مصادر التمويل الخارجية، يُتوقع أن تلجأ الجماعة إلى فرض مزيد من الإتاوات على المواطنين والتجار، في محاولة تعويض الانهيار الاقتصادي، وهي سياسة محفوفة بالمخاطر وقد تُشعل غضباً شعبياً واسعاً خصوصاً في ظل أوضاع معيشية منهارة أصلاً، وانعدام الحد الأدنى من الخدمات الأساسية.


التداعيات لا تتوقف عند الجانب الاقتصادي، بل تمتد إلى الجوانب الإنسانية واللوجستية. فنقص الوقود قد يؤدي إلى تعطيل خدمات المياه، والكهرباء، والنقل، وهو ما سيؤثر بشكل مباشر على المستشفيات والمدارس والمرافق الحيوية في مناطق الحوثيين. وتحديداً، قد تعاني المدن ذات الكثافة السكانية العالية مثل صنعاء وذمار والحديدة وحجة من شلل في الخدمات، وارتفاع جنوني في أسعار النقل والسلع الغذائية، ما يفاقم المعاناة اليومية ويضع السكان في مأزق معيشي خانق.


الواقع الجديد يضع الحوثيين أمام مفترق طرق.. الاستمرار في نهج الأولوية العسكرية على حساب معيشة المواطنين، أو تقديم تنازلات سياسية لتجنب الانهيار الداخلي. وبالنظر إلى البنية الأيديولوجية للجماعة وتاريخ تعاملها مع الأزمات، فإن الخيار المرجّح هو الأول، أي الاستمرار في تسخير الموارد المتبقية لآلة الحرب، وهو ما قد ينعكس سلباً على شعبيتها ويؤدي إلى تصدعات داخلية، خصوصاً في البنية القبلية التي تُعد ركيزة أساسية في تحالفاتهم.


وفي ظل هذه التطورات، تبرز فرصة استراتيجية للشرعية اليمنية لتعزيز حضورها السياسي والاقتصادي، من خلال طرح نفسها كبديل مسؤول وفعّال لتوفير الوقود والخدمات.  وقد بدأت فعلياً بالترويج لاستعدادها لتوفير المشتقات النفطية للسكان في مناطق الحوثيين، سواء من مأرب أو عدن، في خطوة قد تعيد ترميم صورتها لدى الناس في تلك المناطق. هذا التحرك لا يعكس فقط نية للتخفيف من المعاناة، بل يحمل في طيّاته محاولة ذكية لاستعادة زمام المبادرة، وتقديم الشرعية كجهة حريصة على الصالح العام، وليس مجرد طرف في صراع.


هذه المبادرة إذا تم تفعيلها بشكل عملي، سوف تحقق للشرعية ثلاث فوائد: أولاً، تعزّز حضورها الشعبي في مناطق خارج سيطرتها؛ ثانياً، تعيد سيطرتها على الدورة الاقتصادية الوطنية؛ وثالثاً، تحسّن صورتها أمام المجتمع الدولي كجهة متعاونة في ظل أزمة إنسانية متفاقمة. وهو ما قد ينعكس إيجاباً على فرصها في الحصول على دعم دولي أكبر خلال المرحلة المقبلة.


بالإضافة إلى ذلك، فإن تحرك الشرعية قد يُسهم في تعرية الخطاب الدعائي الحوثي، الذي لطالما حمّل الحكومة والخارج مسؤولية الأزمات. ومع تسارع الانهيار، واتساع الهوة بين قيادة الجماعة التي تعيش في رفاه، والسكان الذين يرزحون تحت المعاناة، يصبح هذا الخطاب أقل إقناعاً، وقد يبدأ المواطنون بإعادة النظر في خياراتهم ومواقفهم.


على المستوى الإقليمي، تُرسل الضربة رسائل واضحة إلى طهران بأن الدعم غير المباشر لوكلائها في المنطقة لم يعد آمناً. فاستهداف شريان تمويلي بهذا الحجم، يُشكّل تحوّلاً في قواعد الردع، ويُعيد توازن الرد بين واشنطن وإيران، ضمن ساحة البحر الأحمر التي تشهد تصعيداً متزايداً في الآونة الأخيرة.


ختاماً، إن ما حدث في رأس عيسى لا يُقرأ فقط كعملية عسكرية، بل كنقلة استراتيجية تحمل أبعاداً مركّبة. هي ضربة تُعطّل اقتصاد الحرب، وتُربك الحسابات اللوجستية، وتفتح أمام الشرعية نافذة للتقدّم، وأمام الحوثيين أبواباً من الضغط الشعبي والسياسي قد لا تُغلق بسهولة. وإن أُحسن استثمار هذه اللحظة من قبل الحكومة والتحالف العربي، فقد تكون الضربة بداية لتغيير قواعد اللعبة، وإنهاء حالة الجمود التي خيّمت على المشهد اليمني لسنوات.


 

The stated views express the views of the author and do not necessarily reflect the views of the Center or the work team.

Comments