شهد العامان الماضيان وفرة ملحوظة في النشاط العملياتي لتنظيم القاعدة في اليمن، وقد تركزت عمليات التنظيم بصورة أساسية في مناطق الشرعية في جنوب البلاد وتحديداً محافظتي أبين وشبوة، كما أن التنظيم حاول مؤخراً استئناف عملياته النوعية من خلال خلاياه الجهادية المزروعة في محافظات عدن وتعز وحضرموت.
ويأتي هذا النشاط العملياتي للقاعدة كجزء من تغير أشمل وأعمق يعيشه التنظيم على مستوى الرؤية والتوجه، قام بموجبه خالد باطرفي أمير تنظيم القاعدة في اليمن، بإعادة ترتيب أولوياته الاستراتيجية في محورين رئيسيين: أولهما، الموازنة بين العمل المحلي في الداخل اليمني والعمليات الخارجية المهددة للمصالح الدولية. وثانيهما، إعادة ترتيب قائمة الأعداء والأصدقاء وفق ما تقتضيه تفاعلات الصراع في اليمن وما تفرضه مصلحة قيادة التنظيم الجهادي.
وتسعى هذه الورقة إلى تقديم خلفية لتفسير الدوافع والظروف التي أحاطت بتنظيم القاعدة وأسهمت في إحداث هذا التحول العميق في أولوياته الاستراتيجية وصولاً إلى تعديل خطابه الأيديولوجي وتحركاته العملياتية.
وستحدد الورقة ملامح الاستراتيجية الراهنة التي يتبناها زعيم التنظيم خالد باطرفي، والتي يفترض بها أن توجه السلوك الجهادي خلال عام 2024، وسوف تتطرق الورقة إلى أسماء النخبة القيادية الجديدة في قمة هرم التنظيم والمكلفة بتنفيذ هذه الاستراتيجية.
وقد اعتمدت هذه الدراسة على نوعين من المصادر: الأول، المواد المنشورة من الدراسات والتقارير والإصدارات المتعلقة بالتنظيم. والثاني، المصادر الخاصة من داخل تنظيم القاعدة أو من السلك الأمني اليمني.
خلفية عامة: تكوين القاعدة.. وجدل الداخل والخارج
في نهاية التسعينيات؛ وبعد أن أكمل أسامة بن لادن تأسيس الهيكل التنظيمي للقاعدة، ونجح في تجميع رفاقه القدامى إبان "الجهاد ضد الشيوعية"؛ وضع الرجل استراتيجيته الكبرى للجهاد العالمي ضد الغرب، وكان اليمن واقعاً في قلب هذه الاستراتيجية، التي ارتكزت على ثلاثة محاور:
أولاً، استدراج القوات الأمريكية إلى الشرق الأوسط؛ من خلال استهداف المصالح الأمريكية الحيوية في المنطقة كما حدث في عملية المدمرة الأمريكية "كول" التي تم تفجيرها في خليج عدن عام 2000. ومن ثم استهداف الداخل الأمريكي بعمليات تاريخية يصعب السكوت عليها مثلما حدث في 11 سبتمبر 2001.
ثانياً، نقل مركز قيادة القاعدة إلى اليمن؛ وفي عام 2001 كان أسامة بن لادن يضع اللمسات الأخيرة على خطة انتقاله الشخصي إلى اليمن، وقد بعث إليها نخبة قياداته المقربة لتمهيد ملاذ آمن له.
ثالثاً، خوض حرب استنزاف طويلة الأمد من هناك، وبالتالي تكرار سيناريو الحرب السوفيتية، لكن مع الغرب هذه المرة. إلا أن خطته هذه أخفقت لأن الولايات المتحدة الأمريكية نجحت في محاصرته في جبال أفغانستان قبل ذهابه إلى سواحل اليمن(1). غير أن فشل خطة بن لادن بالانتقال الشخصي لم يعني أبدا فشل رهانه الاستراتيجي على اليمن والذي أثبتت التطورات التالية صحته.
في عام 2006، شهدت الحركة الجهادية اليمنية ولادة جديدة بعد نجاح ناصر الوحيشي وقاسم الريمي بالفرار من السجن. وقد شهد الفرع اليمني لتنظيم القاعدة طفرة تنظيمية جعلته يتحول إلى مركز قيادة إقليمي، وقد باشر نشاطه الإرهابي بفاعلية ملحوظة، ونفذ خلال وقت قياسي أخطر العمليات الخارجية للحركة الجهادية (استهداف السفارة الأمريكية في اليمن، وعملية الشاب عمر فاروق، وعملية الطرود المفخخة، ومحاولة اغتيال الأمير محمد بن نايف وزير الداخلية السعودي الأسبق (2).
كل هذا جعل المخابرات الأمريكية في عام 2010 تصنف فرع القاعدة في اليمن باعتباره الجماعة الجهادية الأخطر في العالم، أي أن فرع اليمن كان أخطر حتى من مركز القيادة العامة لتنظيم القاعدة في أفغانستان (3).
ومع اندلاع الثورات العربية، شهد تنظيم القاعدة في اليمن ما يمكن تسميته بـ"الفترة الذهبية"، منذ عام 2011 وحتى عام 2016؛ تحول فيها من تنظيم جهادي عابر للحدود إلى كيان سلطوي يسيطر على مناطق جغرافية واسعة ويمتلك موارد ذاتية كبيرة. غير أن هذا التمدد جاء على حساب نشاطه الدولي، وخلال هذه الفترة لم ينفذ فرع القاعدة في اليمن سوى عملية واحدة عابرة للحدود وهي عملية "شارلي إبدو" في عام 2014.
ومع ذلك، فإن تنظيم القاعدة لم يتخلى يوماً عن أجندته الجهادية باستهداف المصالح الغربية، وظل يراكم الخبرات والقدرات بانتظار اللحظة المثلى لاستئناف عملياته.
تراجع محلي ونشاط خارجي
في عام 2017، بدأ تنظيم القاعدة في التراجع لسببين: أولهما، اغتيال زعيمه المؤسس ناصر الوحيشي، وهو ثاني أهم قيادي في الحركة الجهادية العالمية بعد أسامة بن لادن، وقد كان المرشح الأول لخلافة الظواهري في زعامة التنظيم، لذا فإن قتله مثل ضربة قوية للتنظيم وشكل بداية فترة التراجع العام للحركة الجهادية.
وثانيهما، تآكل الرقعة الجغرافية التي يسيطر عليها التنظيم لاسيما في المحافظات اليمنية الجنوبية المطلة على البحر، وذلك بعد أن قامت الولايات المتحدة الأمريكية والإمارات- بالشراكة مع حلفائهم المحليين- بتكثيف معاركهم العسكرية على الأرض وتطهير المدن الحيوية من نفوذ القاعدة وتحديداً في عدن والمكلا، إلى جانب المناطق الريفية في أبين ولحج وحضرموت وشبوة(4).
وكانت المفارقة أن خسارة التنظيم للعديد من مكاسبه المحلية، جعلته أكثر تحفزاً لاستئناف عملياته الخارجية المهددة للمصالح الغربية. وبين الفترة من عام 2018 وحتى عام 2020؛ قام التنظيم بالتخطيط لعدد من العمليات النوعية التي منها ما نجح ومنها ما فشل في الأمتار الأخيرة، ومن أهم هذه العمليات(5):
التحول الجهادي الشامل
خلال عام 2020، شهدت الساحة الجهادية متغيرين مهمين: الأول، مقتل قاسم الريمي آخر القادة اليمنيين الأقوياء من الرعيل الجهادي الأول الذي تدرب على يد أسامة بن لادن في افغانستان، وتنصيب خالد باطرفي زعيماً للقاعدة.
ورغم خسارة القاعدة لزعيمها، إلا أن التنظيم استطاع الحفاظ على تماسكه واستفاد إلى حد كبير من ظروف الحرب ومن تناقضات الصراع في اليمن والتي أتاحت له هامشاً للمناورة والبقاء.
وقد استمر بالتخطيط للعمليات الخارجية، لكن فعاليته تراجعت بسبب المشاكل الداخلية التي بات يواجهها التنظيم في ظل تراجع التمويل وتفاقم الخلافات التنظيمية.
والثاني، انتقال مركز قيادة التنظيم من أفغانستان إلى إيران؛ وذلك من خلال صعود سيف العدل، وهو القيادي المصري محمد صلاح الدين زيدان المقيم في إيران، ليصبح القائد الفعلي لتنظيم القاعدة، وخلال فترة خالد باطرفي استطاع سيف العدل أن يبسط نفوذه وسيطرته على فرع القاعدة في اليمن، وقد أرسل نجله إلى اليمن ليكون قناة التواصل الرئيسية التي تنقل المعلومات والتعليمات(6).
وقد نجح سيف العدل في إقناع خالد باطرفي بتجميد المعارك الداخلية في الجبهات اليمنية لأنها تستنزف التنظيم، لاسيما مع الحوثيين، كما نصحه بالتفرغ للعمل على استهداف المصالح الغربية، لأن ذلك يحقق للتنظيم جملة من المكاسب، أهمها:
أولاً، إن ذلك يساهم في إعادة توحيد التنظيم بشكل يمكن أن يساعده في تجاوز أزماته الداخلية، ويضفي عليه زخماً خاصاً بين صفوف الحركة الجهادية العالمية وبالتالي استعادة موقعه القيادي.
ثانياً، إن القوات الغربية وكذلك المصالح الأجنبية في اليمن تمثل الآن نقطة مشتركة بين الجهاديين السنة وفي مقدمتهم القاعدة وبين "الجهاديين" الشيعة بقيادة إيران وحليفها في اليمن(7).
مُحفِّزات إضافية باتجاه التحول الاستراتيجي
خلال العامين الماضيين، برزت جملة من العوامل الذاتية المتعلقة بالحركة الجهادية، إضافة إلى جملة من العوامل الموضوعية المتصلة بتفاعلات الصراع اليمني عموماً، والتي حفَّزت بدورها مسيرة باطرفي لإنجاز عملية التحول الاستراتيجي الشامل. ويمكن إجمال هذه المُحفِّزات على النحو التالي:
على المستوى الجهادي:
على الصعيد اليمني:
كان عام 2022 حاسماً بعد تشكيل مجلس القيادة الرئاسي اليمني، وقد انعكس ذلك بصورة مباشرة على أجندة تنظيم القاعدة من ناحيتين:
الاستراتجية الجديدة ونخبتها القيادية
في عام 2019، تفاهم قاسم الريمي وسيف العدل على تبني بعض التغيرات الجزئية في استراتيجية القاعدة وذلك بغية التكيف المرحلي مع بيئة الصراع اليمني. وبعد تصفية الريمي، ظل خالد باطرفي ملتزماً بالسير على نهج سلفه الاستراتيجي، والذي يرتكز على مبدأي: التهدئة مع الحوثي محلياً، واستئناف العمليات النوعية دولياً.
لكن باطرفي، وبعد عامين من توليه الزعامة، قرر التقدم خطوات إضافية إلى الأمام وأعاد صياغة العقيدة الجهادية لتنظيم القاعدة بحيث تتجاوز مبدأ التغيير التكيفي المحدود وتشهد عملية تحول شامل. وقد بنى باطرفي استراتيجيته في "2022-2023" على أربعة مرتكزات أساسية(10):
النخبة القيادية الجديدة في تنظيم القاعدة
في مطلع عام 2023، عقد خالد باطرفي في إحدى المناطق النائية بين محافظتي شبوة ومأرب اجتماعاً استثنائياً لجميع قيادات التنظيم، وقد أكد لهم إصراره على المضي قدماً في استراتيجية عسكرية جديدة، وبناءً على ذلك قام باطرفي بتكليف لجنة رباعية لتنفيذ محاور هذه الاستراتيجية، وهم(11):
الخلاصة:
شهد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب جملة من التحولات الجوهرية نتيجة تفاعلاته الداخلية أو الظروف الخارجية. وقد دفعته هذه التحولات ليصبح أقرب من أي وقت مضى إلى "محور المقاومة" بقيادة طهران.
ومن المتوقع أن يكثف التنظيم مستقبلاً من نشاطه الجهادي على جبهتين: أولاهما، المناطق المحررة التابعة للحكومة الشرعية. وثانيتهما، المصالح الدولية في اليمن أو في الخارج. ومن شأن تقاربه الوثيق مع الحوثيين أن يمنح للتنظيم الجهادي ملاذات آمنة وقدرات نوعية تنعكس على فاعليته الأمنية والعسكرية.
في المقابل، فإن هذا التحولات، وإن كانت تمثل لزعيم تنظيم القاعدة خالد باطرفي فرصة للهروب إلى الأمام وتجاوز التحديات الماثلة أمامه؛ فإنها في الوقت نفسه تذكي المزيد من الخلافات الداخلية وتهدد قدرة التنظيم على الحفاظ على استقلاليته الذاتية ونشاطه الميداني.
(1) عودة إلى الأرشيف: اليمن في عيون أسامة بن لادن، سوث 24، 13-9-2021، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/AJhRMAz
(2) https://marebpress.net/articles.php?id=5804
(3) Laura Smith-Spark, What is al Qaeda in the Arabian Peninsula?, CNN, 14-5-2015, available at; https://2u.pw/KHIvUMt
(4) حسام ردمان، حصاد الجهاد اليمني: 2017.. عام إعادة البناء، مركز للدراسات الاستراتيجية، 28-1-2018، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/GoY4TD8
(5) حسام ردمان وعاصم الصبري، القيادة من طهران: كيف استطاع سيف العدل التحكم في فرع القاعدة في اليمن؟، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، 28-2-2023، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/Ednv5co
(6) ابن سيف العدل.. مصادر خاصة لأخبار الآن تكشف هوية مسؤول الاتصالات بين باطرفي وطهران، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/29Azv3Y
(7) مصدر خاص.
(8) عاصم الصبري، حرب غزة: كيف لها أن تفتح باب التحالف بين إيران وفرع تنظيم القاعدة في اليمن، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، 12-12-2023، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/w80acyb
(9) تم بلورة ملامح استراتجية باطرفي بناء على تحليل سلوك القاعدة، وكذلك بناء على مقابلات مع مصادر خاصة.
(10) مقابلة خاصة أجراها الباحث مع مسؤول أمني رفيع، في أكتوبر ٢٠٢٣.
(11) مقابلة خاصة أجراها الباحث مع مسؤولان أمنيان في الحكومة الشرعية، في ديسمبر ٢٠٢٣.
إخلاء للمسئولية: تعبّر وجهات النظر المذكورة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المركز أو فريق العمل.
التعليقات