الرئيسية دراسات تحولات الموقف الأوروبي بشأن الانتهاكات في اليمن (2015-2023)
دراسات بدون تصنيف

تحولات الموقف الأوروبي بشأن الانتهاكات في اليمن (2015-2023)

للعام الثاني على التوالي، لم تتقدم دول "المجموعة الأوروبية"*، خلال انعقاد الدورة الرابعة والخمسين لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة (HRC54) التي عقدت في الفترة من 11 سبتمبر/أيلول إلى 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023 في قصر الأمم بجنيف، بمشروع قرار للمجلس يتبنى تشكيل آلية دولية للتحقيق في اليمن كما جرت العادة خلال سنوات الحرب اليمنية (2015-2021). لكن المجموعة في المقابل تقّدمت بمقترحين للمجموعة العربية وذلك في محاولة لتضمينهما مشروع القرار العربي المقدم للمجلس: أولهما، تشكيل لجنة دولية للتحقيق. وثانيهما، تكليف المفوض السامي لحقوق الإنسان بإعداد تقرير سنوي عن حالة حقوق الإنسان في اليمن، إلّا أن "المجموعة العربية"* رفضت كلا المقترحين.
وكان المجلس قد وافق على مشروع القرار العربي الذي ينص على دعم اللجنة الوطنية للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في اليمن، واستمرار تقديم الدعم الفني واللوجستي لها من قبل المفوضية السامية.
ولفهم الاستدارة الأوروبية المتعلقة بالموقف من الانتهاكات في اليمن، تجدر الإشارة إلى أن الموقف الأوروبي قد مر بمسارين مختلفين: الأول؛ المساعي المبكرة لتدويل ملف الانتهاكات 2015-2021، وذلك من خلال تبني تشكيل آلية دولية للتحقيق في الجرائم والانتهاكات. والثاني؛ الصمت مقابل احتواء أزمة الطاقة الناتجة عن الحرب الروسية-الأوكرانية 2022-2023.
مساعي أوروبية مبكرة لتدويل الانتهاكات
رداً على إعلان التحالف العربي لدعم الشرعية التدخل العسكري في اليمن في مارس 2015، طالبت هولندا- نيابة عن المجموعة الأوروبية- خلال انعقاد الدورة الـ30 لمجلس حقوق الإنسان في أيلول/سبتمبر 2015، بضرورة تشكيل آلية دولية للتحقيق في ارتكاب جرائم حرب مزعومة في اليمن. إلا أن تلك الدعوة لم يكتب لها النجاح. 
وبالتزامن مع المساعي الأوروبية لاستبدال الولاية الوطنية بالولاية الدولية، أصدر الرئيس اليمني السابق عبد ربه منصور هادي القرار الجمهوري رقم 50، والذي أعاد بموجبه تشكيل "اللجنة الوطنية للتحقيق في ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان"[١] التي جرى تشكيلها في العام2012  بموجب القرار الجمهوري رقم 140، وتم تعديلها ثلاث مرات في الأعوام 2015-2016-2016 بموجب القرارات الجمهورية المعدّلة رقم 13- 66-97. وكانت اللجنة قد مُنحت ولاية الرصد والتحقيق، وتداول على رئاستها القاضي قاهر مصطفى، والقاضي أحمد المفلحي.
وخلال انعقاد الدورة الـ33 لمجلس حقوق الإنسان في سبتمبر/أيلول 2016 بجنيف، تقدمت هولندا بمشروع قرار تضمّن تشكيل لجنة تقصي حقائق في اليمن ابتداءً من مارس 2015، أي منذ بدء انطلاق عمليات التحالف العربي المساند للشرعية في اليمن، ثم قامت بسحبه بعد مشاورات مكثّفة مع المجموعة العربية قُبيل طرحه للتصويت.
وكان الجانب الأوروبي قد استند في حيثيات مشروع القرار المقدم للمجلس إلى أن جرائم حرب قد ارتكبت في اليمن، وأن اللجنة الوطنية غير مستقلة، بالإضافة الى أنها غير قادرة على القيام بالمساءلة؛ فيما استندت حيثيات دول المجموعة العربية الرافضة لتشكيل آلية تحقيق دولية على نقطتين جوهريتين: الأولى، أن المطالبة المستعجلة بالمساءلة في ظل استمرار الحرب هو نوع من الابتزاز. والثانية، أن تلك المساعي المحمومة أثارت التوجس من أن الهدف النهائي منها الضغط بإيقاف التدخل العربي المساند للشرعية وترك الحكومة اليمنية فريسة سهلة للحوثيين.  أضف إلى ذلك؛ أن العلاقات بين المجموعتين كانت تشهد فتوراً منذ إصدار بيان مشترك يتضمن تفاهمات حول الاتفاق النووي مع إيران، في 2 أبريل 2015، قبل أن يتم التوصل إليه فعلاً في 14 يوليو من العام نفسه، والذي لعب فيه الأوروبيون دوراً بارزاً.  
ويكمن رفض اليمن- الذي لا يملك مقعداً في مجلس حقوق الإنسان- في التمسك بالسيادة الوطنية. ويعد الصراع بين السيادة الوطنية للدول ومحاولات تطوير الضوابط القضائية على الممارسات التي تتجاوز مقتضيات القانون الدولي وفروعه، محل جدل ونقاش دائمين سواء على مستوى الفقهاء الدوليين أو على مستوى الدول في كافة هيئات الأمم المتحدة.
وللعام الثالث على التوالي، تقدم الهولنديون بمشروع قرار للمجلس، أثناء انعقاد الدورة الـ36 للمجلس في سبتمبر/أيلول 2017، تضمن تشكيل آلية دولية للتحقيق في اليمن، فيما تقدمت المجموعة العربية بمشروع قرار مضاد أطلق عليه اسم "مشروع القرار العربي" طالبت المجموعة من خلاله بإسناد "اللجنة الوطنية للتحقيق" ودعمها فنياً ولوجستياً لتتناسب أعمالها مع المعايير الدولية. 
ونظراً لإدراك دول المجموعتين لصعوبة حسم المواجهة في المجلس، جرى التوافق على مشروع قرار موحد تضمّن الغايتين النهائيتين لمضمون القرارين (تشكيل آلية دولية للتحقيق ودعم الآلية الوطنية)، حيث تم التوافق على تشكيل فريق للخبراء بدلاً من لجنة لتحقيق، وعلى أن يبدأ التحقيق من العام 2014، أي منذ اجتياح الحوثيين العاصمة صنعاء وليس من العام 2015، أي منذ بدء انطلاق العمليات العسكرية للتحالف، وأن يدرج القرار تحت البند العاشر المخصص لدعم الدول تقنياً بدلاً من البند الثاني المخصص للتحقيق في انتهاكات الدول. 
كما تم التصويت بالإجماع في المجلس على دعم اللجنة الوطنية للتحقيق. وفي ختام انعقاد الدورة، أصدر مجلس حقوق الإنسان القرار رقم A/HRC/RES/36/31 الذي قضى بتشكيل فريق الخبراء الدوليين والإقليميين البارزين لمدة عام قابل للتجديد، يتولى "رصد الحالة المتعلقة بحقوق الإنسان، والإبلاغ عنها، وإجراء دراسة شاملة لجميع الانتهاكات المزعومة، وانتهاكات حقوق الإنسان الدولية، وغيرها من ميادين القانون الدولي، التي ارتكبتها جميع أطراف النزاع منذ سبتمبر/أيلول 2014، وإثبات الوقائع والظروف المحيطة بالانتهاكات، والانتهاكات المزعومة، وتحديد المسؤولين عنها إن أمكن، وتقديم توصيات عامة بشأن تحسين احترام حقوق الإنسان، وإعمالها، وتقديم التوجيه بشأن الوصول إلى العدالة والمساءلة والمصالحة والشفاء"،[٢] كما طالب المجلس في الفقرة 17 من البيان الختامي للمفوضية السامية، بأن تواصل توفير بناء القدرات الفنية، وتقديم المساعدات التقنية والمشورة والدعم القانوني، لتمكين اللجنة الوطنية للتحقيق من إنجاز عملها التحقيقي في ادعاءات الانتهاكات والتجاوزات في جميع أنحاء اليمن.
وفي 4 ديسمبر/ كانون الأول 2017، قام مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان الأمير رعد بن الحسين بتشكيل فريق الخبراء، المكون من كمال الجندوبي (تونس) رئيساً، وعضوين هما تشارلز غاراوي (المملكة المتحدة)، وميليسا باركي (استراليا).[٣]
تصعيد المواجهة
كان من المتوقع أن يؤدي التوافق بين المجموعتين (الأوروبية-العربية) في مجلس حقوق الإنسان إلى قيام تعاون بنّاء بين الولاية الدولية ممثلة بـ(فريق الخبراء البارزين) والولاية الوطنية اليمنية ممثلة بـ(اللجنة الوطنية للتحقيق في الانتهاكات)، إلا أن الإصرار الأوروبي على التوظيف السياسي لملف الانتهاكات حال دون ذلك.
وشكّل اختيار الفريق للعاصمة اللبنانية بيروت مقراً لأعماله أُولى عوامل انهيار الثقة بين المجموعتين، إذ جرى تفسير تلك الخطوة من قبل الجانب اليمني ودول التحالف العربي على أنها تخفي نوايا مضمرة تجاه الشرعية ودول التحالف العربي، مبررين ذلك بأن بيروت تقع تحت هيمنة حزب الله وإيران، وهو ما يعني إمكانية التأثير على عمل الفريق.[٤]
وكان من المنتظر أن يقدم الفريق تقريراً خطياً شاملاً إلى المفوضية بحلول انعقاد الدورة الـ39 للمجلس، يعقبه حوار تفاعلي للتداول والنقاش بين أعضاء المجلس قبل إصداره بحسب ما نصّ عليه قرار تشكيل الفريق. إلّا أن مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فاجأ دول المجموعة العربية بإصدار تقرير، في 28 أغسطس 2018، تضمّن المخرجات التي توصل لها فريق الخبراء الدوليين والإقليميين البارزين، اتهم من خلاله كلاً من حكومات اليمن والسعودية والإمارات بأنها "مسؤولة عن انتهاكات لحقوق الإنسان الدولية قد ترقى لجرائم حرب".[٥] وذكر التقرير بأن "الحصار" البحري والجوي المفروض على اليمن من قبل التحالف العربي يُشّكل انتهاكاً للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وبأن هكذا أفعال مع توافر شرط النية قد ترقى لجرائم دولية.[٦] كما اتهم التقرير "قوات سلطة الأمر الواقع" بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان الدولية قد ترقى لجرائم حرب.[٧] ووجه اتهامات لكافة "أطراف النزاع في اليمن" بانتهاك واسع للقانون الدولي الإنساني.[٨] وأبدى التقرير أيضاً شكوكاً في طبيعة تقييمات التناسب المعتمدة من قبل التحالف ومدى فعاليتها، ومدى احترام مبدأ التمييز وكيفية تحديد الأهداف العسكرية واختيارها،[٩] واتهم اللجنة الوطنية للتحقيق في ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان بأنها غير مستقلة.[١٠]  وكذلك اتهم موظفين إماراتيين، وموظفين حكوميين يمنيين، وأفراداً تابعين لقوات الحزام الأمني، بارتكاب جرائم اغتصاب وعنف جنسي ضد معتقلين ومهاجرين في سجون تابعة للتحالف والحكومة وقوات الحزام الأمني في عدن.[١١]
وفور إعلان التقرير، جاء الرد من قبل حكومة الجمهورية اليمنية من خلال بيان لوزارة حقوق الإنسان، عبّرت من خلاله عن صدمتها مما ورد في التقرير، وقال البيان إن التقرير يفتقر للدقة والحياد، وأن الفريق تجاوز الولاية القانونية الممنوحة له من قبل مجلس حقوق الإنسان، وأكدت بأنها ستقوم بدراسته، والرد عليه عبر الآليات الرسمية.[١٢]
التحالف العربي هو الآخر أصدر بياناً وَرَدَ فيه أن "التقرير تضّمن مغالطات بعدم تسهيل وصول المساعدات الإنسانية، وتجاهل أسباب النزاع، وكذلك ردود التحالف حول ادعاءات قدمت بتقارير مُضَلِّلة، وتجاهل دور إيران في دعم مليشيات الحوثي المُثْبت في مجلس الأمن".[١٣] ونشر وزير الشؤون الخارجية الإماراتي الدكتور أنور قرقاش آنذاك (المستشار الدبلوماسي للرئيس الإماراتي حالياً) تغريدة على حسابه في "تويتر" جاء فيها: "إن تقرير الخبراء لا بد لنا من مراجعته والرد على حيثياته ومراجعة ما يقوله عن فظائع الحوثي وإجرامه واستهدافه للمدنيين".[١٤]
وفي وقت لاحق، أعلن اليمن مقاطعته للفريق ومنعه من دخول أراضيه. وبالرجوع لمضمون التقرير المثير للجدل، نجد أنه لا تكاد تخلو فقرة فيه لا تستوجب إبداء الملاحظات، بدءاً بالإطار المفاهيمي للتقرير، وتوصيف سياق الحرب، وآلية اختيار الوقائع، والمنهجية، وآليات جمع المعلومات والتحقّق منها، وانتهاءً بالاستنتاجات والتوصيات. 
فعلى سبيل المثال؛ تضمنت ديباجة قرار تشكيل الفريق- التي تُعد الأساس القانوني لقرار المجلس- ضرورة الالتزام بوحدة وسيادة اليمن وسلامة أراضيه، وكذلك القرارات الدولية ذات الصلة بما في ذلك القرار 2216 الصادر عن مجلس الأمن، والمبادرة الخليجية، ومخرجات الحوار الوطني.[١٥] وكان من البديهي أن تكون تلك القرارات هي الإطار المرجعي لفهم سياق الصراع في اليمن، لكن الفريق من خلال التقرير تبنى مقاربة خاصة به، فعبد الملك الحوثي  صُنّف كزعيم جماعة انقلابية في القرار 2216 الصادر عن مجلس الأمن، بينما وصف الفريق الشخص ذاته بأنه "قائد الثورة"،[١٦] ووصف تقدم القوات الحكومية باتجاه محافظة الحديدة بـ"العدوان".[١٧] كما قام الفريق بتعويم الصراع لدرجة انتفاء الشخصية القانونية والمعنوية للدولة اليمنية في جميع حيثيات التقرير. 
وفي فصل استهداف المدنيين، أورد التقرير 18 فقرة للحديث عن الضحايا، 12 منها خصصت لضحايا الغارات الجوية للتحالف،[١٨] إذ ذكر الفريق بأنه حقق في 57 غارة جوية سقط فيها مدنيون، وأورد فقرتين اتهم فيها جميع الأطراف باستخدام قصف متبادل في تعز سقط خلاله مدنيون،[١٩] وأورد فقرتين فقط اتهم خلالها الحوثيين وقوات الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح باستخدام المدفعية وقذائف الهاون في تبة السوفتيل في تعز.[٢٠] كما أن الفريق لم يتطرق لجرائم الحوثيين ضد المدنيين في بقية المحافظات، وبالتحديد قصفهم لمركب يقل العديد من الأسر الفارة من القتال على متن قارب في مدينة التواهي بعدن، على نحو أدى إلى قتل 45 مدنياً وإصابة 67 آخرين، والعديد من الوقائع التي راح ضحيتها العشرات من المدنيين والأطفال والنساء، ولم يتطرق لتفجير المنازل، ولضحايا الألغام، أضف إلى ذلك "قيام الحوثيين باحتجاز وتعذيب واغتصاب الفتيات والنساء في صنعاء"، على الرغم من أن فريق الخبراء التابع لمجلس الأمن الدولي المعني باليمن تطرق بالتفصيل لهذه الانتهاكات في تقاريره، ووجه الاتهامات مباشرة الى الأشخاص والأجهزة الأمنية المسؤولة عن تلك الانتهاكات.
ورغم الاختلالات الفنية والعيوب القصوى التي وردت في التقرير، والاعتراض الشديد على ما ورد فيه من قبل اليمن والسعودية والإمارات ورفض دول المجموعة العربية في المجلس التمديد للفريق، إلّا أن المجموعة الأوروبية استطاعت من خلال حشد الأصوات في المجلس التمديد له، تحت البند الثاني بدلاً من البند العاشر، لثلاثة أعوام على التوالي بفارق ضئيل في الأصوات، أصدر الفريق خلالها ثلاثة تقارير إضافية، حاول من خلالها تخفيف حدة الانحياز من خلال التطرق لانتهاكات الحوثيين، لا سيما تلك المتعلقة بتجنيد الأطفال والانتهاكات الجنسية ضد النساء في المعتقلات، وزراعة الألغام، واستهداف المدنيين، وحصار تعز، إلا أن الثقة بين المجموعتين كانت قد انهارت بالفعل.
وفي سبتمبر/أيلول 2021، رفض مجلس حقوق الإنسان، خلال انعقاد الدورة الـ48 بجنيف، مشروع قرار التمديد لفريق الخبراء الدوليين البارزين المعني بالانتهاكات في اليمن، الذي تقدمت به هولندا تحت البند الثاني، حيث صوتت 21 دولة من إجمالي 47 دولة عضو المجلس بـ"لا" للتمديد، وصوتت 18 دولة بـ"نعم" للتمديد، وامتنعت 7 دول عن التصويت.[٢١] 
وبالإمكان القول أن إخلال الفريق بالأساس القانوني للقرار، وتجاوزه للولاية الممنوحة له، بالإضافة الى المستوى الفني المتواضع التي ظهر به والتحيز المكشوف، والازدواجية الأوروبية في توظيف ملف الانتهاكات، قد شكلت في مجملها القناعة لدى الدول الأعضاء في المجلس بالتوظيف السياسي لملف الانتهاكات وتأثير ذلك على إمكانية قيام مساءلة بناءة في اليمن، وهو ما أدى في نهاية المطاف لرفض التمديد للفريق.
معايير مزدوجة
ينبغي الإشارة الى أن الموقف الأوروبي من الانتهاكات في اليمن مرتبط بدرجة رئيسية بالموقف السياسي من الحرب اليمنية والفاعلين المحليين والاقليميين فيها. وبالعودة للموقف السياسي لدول الاتحاد الأوروبي من عاصفة الحزم، نجد أن فرنسا وبريطانيا- التي كانت لا تزال عضواً في الاتحاد- أعلنتا تأييدهما للرئيس الانتقالي عبد ربه منصور هادي وللعمليات العسكرية للتحالف في اليمن، وحق السعودية في الدفاع عن نفسها، فيما كانت مواقف باقي دول الاتحاد مناهضة للحرب. وبالإمكان القول إن لجوء بقية دول الاتحاد للملف الحقوقي كان موقفاً سياسياً بامتياز، إذ أنه من النادر جداً المطالبة بلجان تحقيق دولية خلال الأيام الأولى لاندلاع الصراعات والحروب بشقيها الداخلي والدولي، خصوصاً إذا ما أدركنا بأنه لمرة واحدة فقط جرى تشكيل لجنة دولية لتقصي الحقائق في غزة عام 2000 على الرغم من امتداد الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي لقرابة 70 عاماً. ولم تدع اللجنة الدولية لحقوق الإنسان- التي تحولت في عهد الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان- لمجلس حقوق الإنسان، لاجتماع واحد أثناء الغزو الأمريكي-البريطاني للعراق، ولم تشكل لجنة تحقيق على الرغم من مقتل أكثر من مليون عراقي. وفي السياق ذاته، وبالتزامن مع الإصرار الأوروبي على فرض الولاية الدولية للتحقيق في اليمن، انتهجت هذه الدول سياسة مغايرة كلياً في سوريا، إذ وضعت الأولوية للمخاوف الأمنية بدلاً من الحقوق، ويمكن إيجاز تلك السياسة بغض الطرف عن جرائم الأسد، باعتبار بقائه يحد من تنامي الجماعات الإرهابية من جهة، ويقلل من تدفقات السوريين باتجاه أوروبا من جهة أخرى.
وبالعودة للسياسات الأوروبية المزدوجة تجاه انتهاكات القانون الدولي الحقوقي والقانون الدولي الإنساني، والتي تتغير من بلد إلى آخر بحسب طبيعة المصالح والمقاربات الاستراتيجية لدول الاتحاد والتي تتحدد وفق الاعتبارات الأمنية والاقتصادية، بلغت الازدواجية الأوروبية أوجها في التعاطي مع الأزمتين اليمنية والليبية.
ففي ليبيا، افترض الأوروبيون وحلفائهم الامريكيين أن وصول قوات الرئيس الأسبق معمر القذافي إلى مدينة بني غازي سيؤدي إلى ارتكاب جرائم حرب بحق المتظاهرين، وبالتالي قرروا التدخل العسكري تحت شعار "التدخل الإنساني". وفي الوقت ذاته، واصل الحوثيون اجتياحهم للمدن اليمنية تباعاً بدءاً بمحافظات حجه وعمران والعاصمة صنعاء مروراً بمحافظات الوسط وصولاً إلى عدن، ومع ذلك لم يحرك الأوروبيون ساكناً. 
وفي تناقض مدهش ومحير أيضاً، أدرج الاتحاد الأوروبي وعدد من الدول الأوروبية (المانيا، فرنسا، بريطانيا، هولندا، ليتوانيا، التشيك، استونيا، النمسا) حزب الله اللبناني على قوائم الإرهاب، وفي الوقت ذاته لم يتم تصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية، على الرغم من التطابق بينهما على المستوى العقدي والعقيدي والممارسات والتمويل والتبعية لطهران، بل إن الأوروبيين لعبوا دوراً حاسماً في بقاء الحوثيين خارج قوائم التصنيف، وعارضوا بشدة تصنيف إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لهم كإرهابيين قبيل انتهاء فترة ولايته الرئاسية.

استدارة شاملة
أدّت الحرب الروسية-الأوكرانية إلى حدوث تغير جيواستراتيجي في السياسة الخارجية الأوروبية، حيث أعاد الأوروبيون تعريف مصالحهم وأعادوا تموضعهم على رقعة المسرح الدولي، إذ ركزوا اهتماماتهم بشكل مباشر نحو الحرب في أوكرانيا وتداعياتها لا سيما النزوح والتضخم وإيصال المساعدات بشقيها الإنساني والعسكري للأوكرانيين، بالإضافة لأزمة الطاقة.  
وفي ظل مساعيهم لتأمين مصادر بديلة للطاقة الروسية، سعى الأوروبيون لتعزيز التعاون الاقتصادي والأمني بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي وتطوير العلاقات الأوروبية–الخليجية المباشرة في ظل إعادة التموضع الأمريكي في المنطقة.
وكان الجانبان قد وقعا اتفاقية شراكة استراتيجية في مايو 2022، تضمنت 21 بنداً، وشملت ستة مجالات (الشراكة السياسية، الاستقرار والأمن، مكافحة الإرهاب والتطرف، مواجهة غسيل الأموال، مكافحة التغيير المناخي، الشراكة في قطاع الطاقة). وفي ظل مساعي الجانبين نحو تطوير العلاقات والانتقال بها من مستوى التعاون إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، انتهج الأوربيون سياسة الصمت لا سيما فيما يتعلق بحقوق الإنسان في اليمن، لكنهم في المقابل خصصوا مبالغ كبيرة لتمويل مشاريع حقوقية وأخرى تتعلق بالمساءلة تقودها منظمات غير حكومية.
 ومن الواضح أن ذلك التكتيك مرتبط بسياسة عدم اليقين من مستقبل الشراكة الأوروبية-الخليجية، وهو ما يشي بأن الجانبين نجحوا في الوصول إلى التهدئة، لكنهما لم يصلا بعد إلى مستوى تصفية الخلافات بشكل نهائي.
ختاماً؛ نستشف مما سلف الإشارة إليه أن الموقف الأوروبي من الانتهاكات في اليمن، بشقيه المتناقضين، يجسد مصالح الدول الأوروبية وليس الضحايا المدنيين. أي أن الأوروبيين في الشق الأول من الحرب قاموا باستخدام الملف لابتزاز السعودية والإمارات، وفي الشق الثاني جرت المقايضة بملف الانتهاكات مقابل تحسين العلاقات مع دول الخليج وذلك لتأمين مصادر بديلة للطاقة الروسية.
وبشكلٍ عام، نجد أن دبلوماسية حقوق الإنسان الأوروبية تعمل كقوة ناعمة في قلب السياسات الخارجية لدول الاتحاد، ويجري توظيفها في الغالب لبناء النفوذ والتأثير في السياسات الداخلية لدول الجنوب العالمي على وجه التحديد، وليس وفقاً لاعتبارات قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، الأمر الذي عطّل قيام بدائل من شأنها خلق موائمة بين المؤسسات الدولية المعنية بالتصدي لانتهاكات القانون الدولي الحقوقي والقانون الدولي الإنساني، والمؤسسات الوطنية الحقوقية اليمنية، التي تفتقر بشكل ملحوظ للكفاءة والحوكمة، أضف إلى ذلك، وهو الأهم، العجز في فرض الولاية على كافة التراب اليمني بالنظر لتعدد السلطات والفاعلين شبه العسكريين والمليشياويين على الأرض.
وفي ظل ما سبق، فإن تسييس الانتهاكات في اليمن قد أدى إلى تشجيع كافة أطراف الصراع على التمادي في الانتهاكات، كما أنه قد يعيق إمكانية قيام مساءلة مثلى في المستقبل المنظور تقوم.


 
* تضم المجموعة الأوروبية كافة دول الاتحاد الأوروبي باستثناء فرنسا.
* تضم المجموعة العربية اليمن ودول التحالف العربي المساند للشرعية.
[١] الرئيس اليمني يصدر قراراً بإنشاء لجنة للتحقيق في ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان، صحيفة الشرق الأوسط، ٩ سبتمبر ٢٠١٥، متوفر على الرابط التالي: https://aawsat.com/home/article/447346/الرئيس-اليمني-يصدر-قرارا-بإنشاء-لجنة-للتحقيق-في-ادعاءات-انتهاكات-حقوق-الإنسان.
[٢] انظر القرار A/HRC/RES/36/31، البند 12 ، الفقرة (أ) و (ب) و (ج).
[٣] اليمن: المفوض السامي يعيِّن مجموعة من الخبراء البارزين الدوليين والإقليميين، 4 كانون الأول/ديسمبر 2017.
[٤] مقابلات في دراسة سابقة للباحث، 2018.
[٥] تقرير مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان الذي يتضمن النتائج التي توصل إليها فريق الخبراء الدوليين والإقليميين البارزين المستقلين وموجز المساعدة التقنية المقدمة من مفوضية الأمم المتحدة السامية إلى اللجنة الوطنية للتحقيق   A/HRC/39/43،  الفقرة 74، ص 13.
[٦] المرجع نفسه، الفقرة 59 (ص:11).  
[٧] المرجع نفسه، الفقرة 80 (ص:14).   
[٨] المرجع نفسه، الفقرة 108 (ص:19).
[٩] المرجع نفسه، الفقرة 38/ أ-ب (ص:8)
[١٠] المرجع نفسه، الفقرة 103 (ص:18).
[١١] المرجع نفسه، انظر الفقرتين 70/93 (ص:13_ ص:16).
[١٢] الحكومة تعبر عن استيائها من تسييس تقرير المفوض السامي وتصفه بغير المنصف، وكالة سبأ، ٢٦ سبتمبر ٢٠١٨، متوفر على الرابط التالي: https://www.sabanew.net/viewstory/38999
[١٣] بيان من تحالف دعم الشرعية في اليمن بشأن تقرير المفوض السامي لحقوق الإنسان، وكالة الأنباء السعودية، ٢٩ أغسطس ٢٠١٨، متوفر على الرابط التالي:  https://www.spa.gov.sa/1802774
[١٤] قرقاش: لابد من مراجعة تقرير الخبراء بشأن اليمن والرد، موقع اخبار الساعة، متوفر على الرابط التالي: https://hournews.net/news-90198.htm
[١٥] انظر ديباجة قرار إنشاء الفريق A/HRC/RES/36/31   ، متوفر في هامش رقم 14.
[١٦] المرجع نفسه، ملحق رقم 4 ، ص: 31.
[١٧] المرجع نفسه، الفقرة 25، ص: 6
[١٨] المرجع نفسه، انظر الفقرات من 28 الى 39 "، ص: 6،7،8،9،10.
[١٩] المرجع نفسه، الفقرتان40، 41، ص: 9
[٢٠] المرجع نفسه، انظر الفقرتان 42، 43، ص: 9
[٢١] مجلس حقوق الإنسان يرفض تجديد ولاية فريق الخبراء المعني باليمن، والفريق يصف ذلك بأنه "نكسة" للضحايا، موقع الأمم المتحدة، 8 تشرين الأول/اكتوبر2021، متوفر على الرابط التالي: https://news.un.org/ar/story/2021/10/1084742

إخلاء للمسئولية: تعبّر وجهات النظر المذكورة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المركز أو فريق العمل.

التعليقات