الرئيسية تقديرات هجمات البحر الأحمر: قيود إضافية تُكبِّل سلاسل الإمداد إلى اليمن
تقديرات برنامج الدراسات الاقتصادية

هجمات البحر الأحمر: قيود إضافية تُكبِّل سلاسل الإمداد إلى اليمن

تضع هجمات البحر الأحمر الاقتصاد العالمي، وحرية الملاحة الدولية، أمام تحديات جديدة، من شأنها مفاقمة أزمات سلاسل التوريد وإمدادات الطاقة الدولية، لا سيما مع موجات الأزمات السابقة التي عصفت بسلاسل الإمداد، جراء انتشار جائحة كورونا، واندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية.
وقد بدت ملامح هذه الأزمة واضحة من خلال تغيير مسار التجارة العالمية، واللجوء إلى خيارات أخرى وطرق بديلة عن البحر الأحمر وباب المندب، وهو خيار إجباري بالنسبة للعديد من دول العالم، لاستمرار وتيرة النشاط والنمو في الاقتصاد العالمي. بيد أن الجانب الخفي من الأزمة هو المخاطر المحتملة التي تواجه حركة تدفق السلع والشحن البحري إلى الموانئ المُشاطِئة للبحر الأحمر ومنها الموانئ اليمنية.


تداعيات رئيسية 
تتمثل أبرز التداعيات التي تفرضها تلك الهجمات في:

  1. عزوف عمالقة الشحن عن البحر الأحمر: دفعت الهجمات في البحر الأحمر العديد من عمالقة الشحن حول العالم إلى تغيير مسار الإمداد، وأثارت المخاوف بشأن استقرار سلاسل التوريد العالمية، حيث ارتفعت تكلفة الشحن البحري عبر باب المندب إلى أرقام قياسية.
    ولجأت بعض شركات الشحن إلى مسارات أخرى بعيداً عن البحر الأحمر، ما أدى إلى انخفاض كفاءة دوران السفن، ونقص الطاقة اللوجستية على مسارات الشحن بين آسيا وأوروبا بشكل سريع، مما تسبب في دفع رسوم إضافية من قبل شركات الشحن البحري.
    وتزيد توترات البحر الأحمر المخاوف العالمية من احتمال عودة التضخم للارتفاع مجدداً في حال طال أمد الأزمة، خصوصاً أنها تأتي بعد أزمات عالمية متلاحقة مثل جائحة انتشار كورونا والحرب الروسية-الأوكرانية، التي أثرت بدورها بشكل بالغ على سلاسل التوريد العالمي، وأعاقت عملية نمو الاقتصاد الدولي.
    هذه الأحداث المتصاعدة في باب المندب والاضطراب الحاصل في أهم الممرات التجارية الدولية في البحر الأحمر تُنذر بتصاعد المخاطر، وتأثر التجارة الدولية واقتصاديات الدول، وهو ما يمثل حدثاً مفصلياً في تطورات الأوضاع في المنطقة، سيؤدي إلى تداعيات كارثية على أسعار السلع والبضائع وارتفاع التأمين على الشحن البحري، فضلاً عن حدوث أزمات عميقة في سلاسل الإمداد.
    وبلا شك، فإن اضطرابات البحر الأحمر قد أحدثت ضرراً كبيراً للنشاط الملاحي لقناة السويس، وعلى حركة مرور السفن، حيث استهلت قناة السويس عام 2024 مسجلة تراجعاً في الإيرادات خلال شهر يناير الأول بنسبة 46% لتصل إلى 428 مليون دولار مقارنة بإيرادات قدرها 804 ملايين دولار خلال الشهر المماثل من العام الماضي، نتيجة انخفاض أعداد السفن المارة بنسبة 36% لتصل إلى 1362 سفينة بفعل المخاوف من هجمات جماعة "أنصار الله" الحوثية في منطقة باب المندب(1).
  2. ارتفاع أقساط التأمين: شهدت أقساط التأمين على السفن المارة بالبحر الأحمر قفزة كبيرة، حيث بلغت نحو 1% من قيمة السفينة خلال الأيام الأخيرة، ارتفاعاً من نحو 0.7% سابقاً مع خصومات مختلفة تطبقها شركات التأمين. وهذا يتحول إلى مئات الآلاف من الدولارات من الكلفة الإضافية لرحلة تستغرق 7 أيام.
    ويعني ذلك أيضاً أن سفينة الحاويات التي تحتوي على 12 ألف حاوية نمطية وبضائع بقيمة 100 مليون دولار، سيتعين عليها دفع مليون دولار إضافي، لتأمين الشحن للإبحار عبر البحر الأحمر. كما أدرجت سوق التأمين في لندن جنوب البحر الأحمر ضمن المناطق عالية المخاطر، حتى قبل الهجمات الأخيرة، ويتعين على السفن إخطار شركات التأمين الخاصة بها عند الإبحار عبر هذه المناطق، دفع قسط إضافي، لمدة تغطية تبلغ سبعة أيام(2).
    وبالطبع، فإن ارتفاع أقساط التأمين للشركات الدولية يؤثر ويضاف إلى القيمة الشرائية للسلعة، والتي تمثل كلفة البضاعة زائد أجور الشحن، إضافة إلى 10% نسبة ما يعرف بتكلفة البضاعة.
    وتتزامن هذه التطورات في أزمات سلاسل التوريد العالمية، مع ما يعانيه اليمن من تراكم أزمات التوريد والشحن التجاري، وارتفاع أقساط التأمين البحري وتبعاته على عملية الاستيراد وتغطية احتياجات الأسواق المحلية، التي تعاني أصلاً من اختلال واسع في العرض والطلب وانخفاض متواصل للمخزون الغذائي. وقد انعكس هذا الاختلال سلباً على الأنشطة التجارية، وعلى ارتفاع أسعار السلع محلياً بشكل مضاعف يفوق قدرة المواطن الشرائية.
  3. زيادة تكاليف الشحن إلى الموانئ اليمنية: أدى تسارع الأحداث في أزمة الشحن عبر البحر الأحمر وباب المندب إلى ارتفاع تكاليف النقل إلى الموانئ اليمنية، بنسبة زيادة تجاوزت 400% مقارنة بشهر نوفمبر 2023.
    وقد أفاد العديد من رجال الأعمال الذين تم استيفاء هذه المعلومات منهم، بأن تكلفة الشحن للحاوية 40 قدم من الصين إلى عدن ارتفعت إلى أكثر من 11 ألف دولار، في أحدث تعريفة، فيما بلغت كلفة شحن الحاوية إلى ميناء الحديدة 12700 دولار.
    وقبل هجمات البحر الأحمر، سجلت تكلفة الشحن إلى الموانئ اليمنية، للحاوية ذاتها 6200 دولار إلى ميناء عدن، و7800 دولار إلى ميناء الحديدة.
    ويُمثل هذا الارتفاع الكبير في تكلفة الشحن إلى الموانئ اليمنية معضلة حقيقية أمام القطاع الخاص والمستوردين، كونه يضاعف من تكلفة فاتورة الاستيراد ويضغط باتجاه ارتفاع منسوب التضخم وارتفاع أسعار السلع على المستهلك، في الوقت الذي يواجه فيه المواطن اليمني أزمات ومشكلات اقتصادية لا تنتهي، نتيجة الحرب الاقتصادية التي تشنها جماعة "أنصار الله" الحوثية داخل الدولة، علاوة على تدني القيمة الشرائية للعملة، التي ألقت بتداعيات سلبية على الاستقرار المعيشي للمواطنين.
    ومن المؤكد أن تصاعد الاضطرابات في البحر الأحمر وباب المندب يقطع الطريق أمام جهود ومحاولات حكومية لخفض تكاليف التأمين على الشحن إلى الموانئ اليمنية، حيث دفع استفحال أزمة سلاسل الإمداد، خلال الفترات الماضية، وزارة النقل بالتنسيق مع الأمم المتحدة، إلى محاولة طرح وديعة تأمينية في نادية الحماية بلندن، بهدف تخفيض رسوم التأمين للسفن التجارية الداخلة إلى الموانئ اليمنية، لكن التطورات الأخيرة أفشلت هذه الجهود للتخفيف من حدة أزمة الشحن البحري.
    وكانت رسوم التأمين على الشحن البحري إلى اليمن قد ارتفعت منذ بدء الحرب بنسبة 16 ضعفاً، كما ارتفعت تكاليف النقل البحري إلى ميناء عدن من 100 إلى 150% نتيجة التطورات التي تشهدها المنطقة حالياً، وهو ما فاقم من الأعباء المالية على المواطن، علاوة على زيادة التكلفة الاقتصادية للنقل البحري وتناقص الحركة الملاحية، وتدهور المستوى المعيشي للسكان(3).
  4. تضخم أسعار السلع: أمام هذه المخاطر، فإن ارتفاع أقساط التأمين سيساهم في زيادة التكاليف، خاصة للجهات المستوردة للسلع، ما قد يؤدي إلى إذكاء التضخم ورفع أسعار مرتقب للعديد من البضائع والسلع.
    وفي الوقت الحالي أيضاً، تفرض ناقلات النفط طويلة المدى، التي تحمل ما يصل إلى 90 ألف طن متري من البضائع، رسوماً أمنية إضافية قدرها 150 ألف دولار لكل رحلة، عند نقل المنتجات المكررة من الشرق الأوسط والهند إلى أفريقيا(4). 
    وتشكل التجارة من مضيق باب المندب ما نسبته 12% من حجم التجارة العالمية، بحسب بيانات منظمة التجارة العالمية، عن عام 2022، إذ يتعامل البحر الأحمر وقناة السويس مع بضائع بقيمة مليارات الدولارات يومياً، من النفط إلى القمح وسلع أخرى.
    وعلى الرغم من أن قرار شركات الشحن البحري برفع التكاليف على كل الشحنات عبر البحر الأحمر، إلا أن التأثير الأكبر يظل من نصيب الموانئ اليمنية جراء رفع مبلغ التأمين، وتظل هذه الأرقام أقل من تكاليف النقل إلى الموانئ اليمنية على الرغم من فارق المسافة بينها وبين الموانئ في شمال أوروبا، بل ومن الموانئ المجاورة بالبحر الأحمر، حيث أن تكلفة نقل الحاوية 40 قدماً من موانئ الصين إلى مينائي جدة بالسعودية والعقبة بالأردن لا تتجاوز الـ7000 دولار فقط.
    وخلال الأعوام الماضية، ظلت أقساط التأمين مرتفعة على عمليات الشحن البحري إلى الموانئ اليمنية، حيث جرى التعامل مع اليمن فيما يخص الأسواق الدولية والشحن البحري وفق تصنيف "منطقة خطرة" بسبب عدم الاستقرار الناتج عن الحرب في البلاد منذ عام 2015، وهو ما انعكس على ارتفاع أسعار السلع والبضائع في السوق المحلية، حيث يُشكل ارتفاع أقساط التأمين وأجور الشحن عوامل أساسية إلى جانب انهيار العملة في التضخم الكبير للمستوى العام للأسعار وتدني القيمة الشرائية للسكان، واضطراب سلاسل التوريد. 
  5. تراجع واردات القمح: ظهرت ملامح تأثر الواردات إلى اليمن، جراء هجمات البحر الأحمر، من خلال العديد من الإشكاليات التي واجهت التجار والمستوردين والمتعلقة بخطوط الشحن إلى الموانئ اليمنية، والتكاليف المرتفعة للشحن البحري.
    وتراجعت واردات القمح، الذي يُعد السلعة الأساسية في اليمن والأكثر استهلاكاً، نتيجة اضطرابات البحر الأحمر وباب المندب، حيث تراجعت عملية استيراده إلى النصف كما كانت عليه سابقاً قبل الهجمات على السفن في 19 نوفمبر الماضي(5).
    وانخفضت واردات القمح بشكل ملحوظ خلال يناير الماضي بنسبة 43% في الموانئ اليمنية المطلة على البحر الأحمر- وهي الموانئ الخاضعة لسيطرة جماعة "أنصار الله" الحوثية- في حين انخفضت الواردات من السلعة ذاتها في مينائي عدن والمكلا الخاضعين للحكومة بنسبة 37%(6).
    هذا التراجع القياسي في حجم الواردات مؤخراً يدق ناقوس الخطر، لما قد تمثله أزمات سلاسل الإمداد إلى اليمن، من كارثة حقيقية تؤدي إلى اتساع فجوة الأمن الغذائي، وانعدام السلع الأساسية، في ظل اعتماد الدولة على الاستيراد بشكل أساسي لتوفير وتلبية أغلب احتياجاتها من الغذاء.
    وقد شهدت أسعار المواد الغذائية فعلياً خلال الشهر الماضي ارتفاعاً ملحوظاً بنسبة 6% في جميع الفئات، ورافق هذا الارتفاع تدهور كبير في العملة المحلية مقابل الدولار، وارتفاع تكاليف النقل بين المحافظات ورسوم التحويلات المالية بين مناطق الحكومة والمناطق الخاضعة لسيطرة جماعة "أنصار الله" الحوثية. 
    ولا يزال المستوى العام للأسعار أعلى من متوسط ثلاث سنوات، وهو الأمر الذي يؤثر على القوة الشرائية للمستهلكين ويحد من إمكانية حصول الأسر الفقيرة على الغذاء.

خلاصة القول، إن كافة الاضطرابات التي تواجه سلاسل التوريد إلى اليمن، من خلال عزوف خطوط الشحن البحري عن العبور من باب المندب، وارتفاع أقساط التأمين على نقل البضائع والسلع، تؤثر بشدة على مستوى الأمن الغذائي في اليمن، في ظل ما تمثله واردات السلع الأساسية من ركائز صلبة تعمل على تأمين المخزون الغذائي خلال الوقت الراهن.
وفي ضوء اعتماد اليمن على المواد الغذائية المستوردة في تلبية نحو 90% من المتطلبات الوطنية من الغذاء، فسيكون لارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية أثر قوي على فاتورة واردات اليمن، وعلى قدرة ملايين اليمنيين على الحصول على الغذاء.
وسوف تؤدي الزيادات الحادة في الأسعار التي تسببت بها أزمات الشحن وسلاسل الإمداد، إلى تفاقم الضغوط على حسابات اليمن الخارجية واتساع فجوة انعدام الأمن الغذائي على حد سواء، خصوصاً مع حلول شهر رمضان، الذي ترتفع فيه فاتورة الاستيراد، نتيجة الطلب المتزايد على الاستهلاك في السوق المحلية.
وتعمل هذه الأزمات المستجدة، مع تراكم المعضلات الاقتصادية السابقة، على اتساع فجوة الأمن الغذائي، وانعدام سُبل الكسب، حيث تشير التوقعات إلى أن العديد من المحافظات اليمنية قد تواجه أسوأ حالات انعدام الأمن الغذائي الحاد في الأشهر المقبلة (7).
ويشير تقرير للوكالة الأمريكية للتنمية خلال فبراير الماضي إلى أن ملايين الأشخاص في المحافظات الخاضعة لسيطرة جماعة "أنصار الله" سيعيشون في مستوى حالة الطوارئ، وهي المرحلة الرابعة من التصنيف المرحلي المتكامل لانعدام الأمن الغذائي، حيث ستعاني على الأقل أُسرة من كل خمس أُسر من نقص حاد في الغذاء يؤدي إلى سوء تغذية شديد أو ارتفاع في معدل الوفيات، أو ستخسر أصولها الحيوية التي قد تسبب نقصاً في الغذاء.
وخلال النصف الأول من عام 2023، استقبل ميناء الحديدة نحو مليوني طن من المواد الغذائية، تُشكل واردات القمح والدقيق 57% منها، في حين تشمل النسبة المتبقية منتجات غذائية أخرى مثل الأرز وزيت الطهي ومنتجات الألبان وغيرها(8).
وفي العام الذي سبقه، شكلت الواردات الواصلة عبر موانئ محافظة الحديدة الخاضعة لسيطرة جماعة "أنصار الله"، 70% من إجمالي الواردات إلى اليمن، وهذا يعطي مؤشراً على أن الاضطرابات الجارية في البحر الأحمر وباب المندب تُهدد في المقام الأول بتوقف إمدادات السلع والشحن البحري إلى موانئ محافظة الحديدة.


هوامش:
(1) رئيس هيئة قناة السويس: تراجع إيرادات القناة 40 في المئة منذ بداية العام، سي إن إن، 12/1/2024، متاح على الرابط التالي:
https://2h.ae/Xcuv
(2)  شركات التأمين البحري في لندن توسع منطقة المخاطر العالية في البحر الأحمر مع تصاعد الهجمات، رويترز، 18/12/2023، متاح على الرابط التالى:
https://2h.ae/Rozs
 (3)   الشحن البحري يصعِّد حرب الموانئ في اليمن، أخبار اليمن، 14/8/2023، متاح على الرابط التالى:
 https://newsyemen.news/new/94184

(4)  ارتفاع التأمين البحري: كيف سيؤثر على الملاحة التجارية الاسرائيلية وأسعار السلع؟، إحنا TV، 10/12/2023، متاح على الرابط التالي:
 https://www.ehna.tv/articles/16343

(٥) Market & Trade Bulletin، Yemen، December 2023 – Issued on 31 January 2024
(6) نفس المرجع السابق.
 (7) تحذيرات من انهيار المنظومتين الصحية والغذائية باليمن/ تقرير للوكالة الأمريكية للتنمية خلال فبراير، الاتحاد، 4/2/2024، متاح على الرابط التالي:
https://www.aletihad.ae/news/ 
(8) واردات الغذاء إلى ميناء الحديدة  / تقرير منظمة الفاو، المشاهد نت، 27/7/2023، متاح على الرابط التالي:
   https://almushahid.net/115889/ 
 

إخلاء للمسئولية: تعبّر وجهات النظر المذكورة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المركز أو فريق العمل.

التعليقات