الرئيسية تقديرات الاستراتيجية الإيرانية في البحر الأحمر: الأبعاد والأهداف
تقديرات إتجاهات أمنية

الاستراتيجية الإيرانية في البحر الأحمر: الأبعاد والأهداف

تحظى منطقة البحر الأحمر خصوصاً مضيق باب المندب الذي يربط البحر العربي والمحيط الهندي بالبحر الأبيض المتوسط من الجنوب، فضلاً عن كونه البوابة الفاصلة بين آسيا وأفريقيا، بخصائص استراتيجية فريدة جعلتها موقعاً للتنافس والصراعات الإقليمية والدولية. 
وإدراكاً من إيران لهذه الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر، بدأت الجمهورية الإسلامية منذ سنوات في تبني مقاربة متعددة الأدوات تستهدف تعزيز نفوذها وتوسيع أدوارها في هذه المنطقة، على اعتبار أن تحقق هذا الهدف يضمن لها تأمين وتعزيز مصالحها الاقتصادية، وزيادة وزنها الجيوسياسي، والضغط على المنافسين الإقليميين والدوليين.
لكن الاستراتيجية الإيرانية في الممر البحري فرضت في المقابل تحديات متنامية مثلت تهديدات ملحة للأمن الإقليمي، وهي الاعتبارات التي تصاعدت معها الحاجة للوقوف على أبعاد هذه الاستراتيجية، وأبرز أهدافها، وكذا التحديات التي فرضتها.


أبعاد المقاربة الإيرانية
يأتي الاهتمام الإيراني بالبحر الأحمر في ضوء العمق التاريخي والجغرافيا السياسية التي تقع ضمنها الجمهورية الإسلامية، باعتبار البحر الأحمر النقطة التي تربطها من ناحية الجنوب بالخليج العربي والجزيرة العربية والمحيط الهندي وأفريقيا، بمعنى أن البحر الأحمر يمثل نقطة ارتكاز رئيسية ومحورية في الاستراتيجية الإيرانية تجاه المنطقة العربية والقارة الأفريقية.
 إذ أن تعزيز النفوذ في هذا الممر الاستراتيجي سوف يضمن لإيران تحقيق جملة من الأهداف الاستراتيجية، ومنها تعزيز العلاقات مع الدول الأفريقية، وموازنة النفوذ الإقليمي لبعض الدول المنافسة، وخلق آليات وبدائل تضمن تجاوز الحصار والعقوبات الغربية، وامتلاك أوراق ضغط تجاه الدول العربية والغربية، فضلاً عن تطوير مصالح إيران الاقتصادية باعتبار أن البحر الأحمر وخصوصاً منطقة باب المندب يحظى بأهمية كبيرة في استراتيجيات التجارة الدولية، وفي إطار هذه المقاربة والرؤية، اعتمدت إيران على استراتيجية تقوم على عدد من الأبعاد التي تخدم هذه الأهداف، وذلك على النحو التالي:

  1. سياسة الاعتماد على الوكلاء: اعتمدت إيران على "الوكلاء" في بعض الدول المحاذية للبحر الأحمر، كأداة رئيسية لتعزيز وجودها في الممر البحري الاستراتيجي، وتأمين مصالحها، وهو ما يتجسد بشكل واضح في حالة ميليشيا الحوثي في اليمن، التي تشكلت خلاياها بين عامي 1983 و1984 بدعم وإشراف إيراني.   وقد ركزت إيران على اليمن لكونها تمثل البوابة الجنوبية لمدخل البحر الأحمر، ما يمكنها من التحكم في الممر البحري، كما أن اليمن تمتلك أكثر من عشرة موانئ وجزر بحرية محورية ومهمة، مثل جزر: سوقطري وحنيش الصغرى والكبرى وكمران وميون، وهي الاعتبارات الجيوسياسية التي زادت من أهمية اليمن في إطار الاستراتيجية الإيرانية تجاه البحر الأحمر.  الجدير بالذكر أن الحوثيين ينتمون  للطائفة الزيدية في اليمن، لكنهم يتبنون عقائدياً المذهب الاثني عشري -مذهب الحكم في إيران- وذلك في إطار علاقات واسعة بينهما، وعقب الانقلاب الحوثي في اليمن وسيطرة المليشيا على صنعاء في 2014، ومنذ ذلك الحين تبنت إيران مقاربة تقوم على الدعم المفتوح للحوثيين بما يضمن زيادة قدراتهم القتالية والتسليحية، وتعزيز قدراتهم التفاوضية في إطار المجريات السياسية للمشهد اليمني.  
    لكن أخطر ما في سياسة الدعم المفتوح الإيراني للحوثيين ارتبط بما تفرضه هذه الاستراتيجية من تهديد بالنسبة للملاحة البحرية عبر مضيق باب المندب، خصوصاً مع سيطرة الحوثيين على أجزاء كبيرة من الساحل الغربي لليمن. وقد أكدت بعض الشواهد هذه الفرضية، حيث شن الحوثيون هجوماً في أكتوبر 2016 ضد سفينة حربية أمريكية "يو إس ماسون"، كما تعرضت ناقلة نفط سعودية لهجوم حوثي مماثل في أبريل 2018. والأمر ذاته تكرر في يوليو 2018 عندما استهدف الحوثيون ناقلتين للنفط السعودي غربي ميناء الحديدة.
  2. تطوير الاستراتيجية البحرية الإيرانية: سعت إيران في السنوات الأخيرة إلى تطوير استراتيجيتها البحرية كجزء من التحولات المهمة التي طرأت على عقيدتها العسكرية، في مواجهة التحولات الإقليمية والدولية، ولعل تأسيس الحرس الثوري الإيراني بأفرعه المختلفة وامتلاكه سلاحاً بحرياً يُضاهي عملياً البحرية النظامية، جاء كأحد المؤشرات الرئيسية التي تعبر عن هذا التوجه، ليكون الحرس الثوري مسئولاً بشكل مباشر عن مهام نوعية تدخل في إطار التحركات الإيرانية في البحر الأحمر، ومنها الضلوع بدور رئيسي في "حرب الناقلات" وتلغيم المياه البحرية، واستهداف السفن المدنية والعسكرية.  وقد نفذ الحرس الثوري العديد من العمليات في البحر الأحمر، التي أكدت على هذا الدور الحيوي الذي بات يؤديه سلاح البحرية الخاص به في إطار الاستراتيجية الإيرانية في البحر الأحمر. فعلى سبيل المثال، قام الحرس الثوري الإيراني في مايو الماضي باحتجاز ناقلة نفط ترفع علم بنما عبر استخدام 12 سفينة هجوم سريعة تابعة للحرس الثوري[١]، وفي يوليو الماضي احتجز الحرس الثوري سفينة تجارية قيل إنها تشارك في أنشطة تهريب، قبالة سواحل عمان[٢]، كذلك احتجز سلاح بحرية الحرس الثوري في سبتمبر 2022 سفينتين عسكريتين تابعتين للولايات المتحدة[٣]. 
    ​​​​​​​ولعل هدف تعزيز النفوذ والوزن الاستراتيجي لإيران في البحر الأحمر، كان أحد الدوافع الرئيسية وراء الحرص الإيراني على تطوير الاستراتيجية البحرية على المستوى العملياتي والتسليحي، خصوصاً على مستوى تنامي الاعتماد على الزوارق البحرية السريعة، والتي باتت تطور بعضها ليصبح مراكب هجومية انتحارية، فضلاً عن اعتماد الحرس الثوري على الألغام البحرية كأداة رئيسية في تحركاته في البحر الأحمر وباب المندب، والصواريخ الباليستية، والغواصات، والطائرات المسيرة.  وقد أكدت العديد من العمليات في البحر الأحمر الجنوح الإيراني المتزايد نحو الاعتماد على هذه الأسلحة، ففي عام 2019 كشفت القيادة المركزية الأمريكية تفاصيل حادثة استهداف ناقلة النفط اليابانية "كوكا كاريد جس" وأكدت أنها تعرضت للغم إيراني من نوع Limpet[٤]، فضلاً عن أن قوات التحالف الدولي في اليمن أعلنت في مرات عديدة أنها قامت بإزالة عشرات الألغام التي نشرتها مليشيات الحوثي في البحر الأحمر.
  3. تأسيس القواعد العسكرية: سعت إيران منذ سنوات إلى تأمين وجود عسكري دائم على سواحل البحر الأحمر، ومن هنا جاء السعي لتأسيس قواعد عسكرية في بعض الدول المشاطئة للبحر الأحمر. فعلى سبيل المثال، وقعت إيران في عام 2008 اتفاقية أمنية وعسكرية مع إريتريا تضمنت تأسيس قاعدة بحرية تُطل على مضيق باب المندب في ميناء "عصب" الإريتري، ولم تكتف إيران بذلك بل قامت بنصب عشرات من بطاريات الصواريخ المتوسطة وبعيدة المدى والصواريخ المضادة للطائرات والسفن في "عصب".
    وفي سبتمبر 2022 نفذ تنظيم الحوثي عرضاً عسكرياً لعناصره في ميناء الحديدة، وأشارت بعض التقارير إلى أن هذا العرض كان تمهيداً لقاعدة عسكرية إيرانية جديدة سيتم تأسيسها في الميناء[٥]، ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة للحالة السودانية، إذ تُثار تكهنات وتقارير بوجود مباحثات تجري في الأروقة بين الجانبين الإيراني والسوداني بخصوص تأسيس قاعدة إيرانية على البحر الأحمر من البوابة السودانية.  وتعبر الأبعاد والأنماط السابقة عن ملامح الاستراتيجية الإيرانية في البحر الأحمر وأنماطها، وهي الأدوات التي تخدم تعزيز النفوذ الإيراني وشبكة المصالح في البحر الأحمر، لكنها تمثل في الوقت ذاته أحد مصادر التهديد الرئيسية للأمن البحري، والملاحظ في هذا الصدد أن إيران تلجأ في أغلب الأحيان إلى التنصل من المسئولية عن عمليات استهداف السفن والشاحنات التي تمر عبر البحر الأحمر، وهو أمر مفهوم في ضوء عدم رغبة إيران في تحمل التبعات السياسية والقانونية لتصريحها بذلك، واعتمادها في المقابل على نمط "حروب الظل".

أهداف متعددة
يرتبط الحرص الإيراني على تأمين وجود دائم وتعزيز أوجه النفوذ في منطقة البحر الأحمر خصوصاً من بوابة باب المندب، بجملة من الأهداف التي تتجاوز السرديات التقليدية التي تحاول ربط ذلك ببعض الاعتبارات الأيديولوجية التي بُنيت عليها السياسة الخارجية الإيرانية منذ الثورة الإسلامية، وهي الأهداف التي يمكن إجمالها على النحو التالي:

  1. التأقلم مع المتغيرات الإقليمية والدولية: يجد المتابع للمشهد الإقليمي والدولي في السنوات الأخيرة، خصوصاً فيما يتعلق بالموقف من النظام الإيراني وأنماط التعامل معه، أن هذا الموقف سواءً على المستوى الإقليمي أو الدولي، يأخذ أنماطاً متقلبة وفقاً لسياقات محلية وإقليمية ودولية معينة، بين الانفتاح النسبي في بعض الفترات، وممارسة الضغوط القصوى في فترات أخرى، لكن وبالنظر إلى الأنشطة الإيرانية في منطقة البحر الأحمر في السنوات الأخيرة، سوف نجد أن الاستراتيجية الإيرانية في الممر البحري لا تتغير على المستوى الاستراتيجي، ولا ترتبط بهذه التقلبات أو التغيرات السياسية، بمعنى أن إيران تستغل فترات الانفتاح النسبي من أجل تعزيز نفوذها في البحر الأحمر بما يدعم مشروعها الإقليمي، وفي المقابل تنظر إلى هذا الحضور في البحر الأحمر على أنه ضرورة قصوى في مراحل التوتر على اعتبار أنه أحد أدوات مواجهة "الضغوط القصوى".
  2. الرد على عمليات الاستهداف: ترتبط استراتيجية إيران الخاصة بتعزيز نفوذها في البحر الأحمر، وما يصاحب ذلك من استهداف بعض السفن المدنية والعسكرية الخاصة ببعض القوى الدولية، بهدف إيراني مهم يتمثل في توجيه رسائل سياسية بأنها تمتلك أوراق ضغط قوية ومؤثرة على حركة الملاحة الدولية، وأن هناك تكلفة كبيرة ستتحملها أي دولة قد تستهدف صادراتها النفطية التي تتم بالمخالفة للعقوبات.               ولعل استهداف إيران في 2019 لناقلة النفط "إستينا إمبيرو"، التي ترفع علم بريطانيا وطاقمها، كان تعبيراً عن ذلك بشكل واضح، فبعيداً عن السردية التي ساقتها إيران بأن هذا الاستهداف جاء في ضوء زعم تلويثها للبيئة، والانحراف عن مسارها القانوني، أو بغرض التحقيق في اصطدام الناقلة بقاربٍ صيد إيراني، إلا أن بعض الدوائر الإيرانية أكدت في ذلك الوقت أن هذه العملية جاءت كرد فعل على احتجاز بريطانيا لناقلة النفط الإيرانية "غريس 1" أثناء العبور من مضيق جبل طارق بحجة أنها متجهة لتزويد نظام بشار الأسد بالنفط الذي يتم بمخالفة العقوبات الدولية المفروضة عليه.
  3. الهروب من العقوبات الغربية: يعد العامل الاقتصادي أحد المحددات الرئيسية التي يمكن في ضوئها فهم المقاربة الإيرانية لتعزيز النفوذ في البحر الأحمر، خصوصاً في ظل العقوبات الغربية المفروضة على إيران والحصار الاقتصادي لها. وفي هذا الإطار، يتيح البحر الأحمر وباب المندب فرصة بالنسبة لإيران للوصول إلى الأسواق الأفريقية، بما يحمله ذلك من مكاسب استراتيجية خصوصاً ما يتعلق بتعزيز علاقات التبادل التجاري بين الجانبين، فضلاً عن ما يترتب على ذلك بطبيعة الحال من تعزيز الحضور الإيراني في القارة الأفريقية وزيادة أوجه الارتباط بها.
  4. تصدير الأسلحة إلى الحلفاء: يرتبط الحرص الإيراني بتعزيز الحضور في البحر الأحمر، في أحد أبعاده، بما يضمنه من تقديم إيران للدعم والإسناد لبعض حلفاؤها، سواءً من المليشيات أو المجموعات المسلحة، أو بعض الأنظمة الحاكمة. فعلى سبيل المثال، أشارت تقارير إلى أن نظام آبي أحمد في إثيوبيا كان يستخدم في حربه مع قوات تيجراي طائرات بدون طيار إيرانية الصنع[٦].

وفي سياق متصل، كشفت دراسة "المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية"[٧]، في 10 نوفمبر 2021، عن أن أسلحة إيرانية نقلت إلى الحوثيين يتم تهريبها بشكل ممنهج عبر خليج عدن إلى الصومال، واستند تقرير المنظمة إلى بيانات عن أكثر من 400 قطعة سلاح، جرى توثيقها في 13 موقعاً بأنحاء الصومال، على مدى 8 أشهر، ومخزونات من 13 قارب اعترضتها سفن عسكرية.
في الختام، يمكن القول إن إيران تتبنى منذ سنوات استراتيجية متعددة الأبعاد والأدوات تستهدف ترسيخ حضور مستدام في البحر الأحمر، خصوصاً من بوابة باب المندب، بما يضمن توظيف هذا الحضور على المستويات الاستراتيجية والجيوسياسية، فضلاً عن ما يتيحه هذا الحضور من امتيازات على المستوى الاقتصادي بما يضمن الهروب من العقوبات الغربية، وتوفير بدائل بالنسبة لإيران.
لكن إيران تحولت في ضوء هذه الاستراتيجية إلى مصدر رئيسي من مصادر تهديد الأمن البحري والإقليمي، خصوصاً مع جنوحها المتزايد نحو "عسكرة" تفاعلاتها في نطاق البحر الأحمر، الأمر الذي يفرض تداعيات سلبية تتجاوز مسألة تهديد الملاحة البحرية، وتصل إلى زعزعة الاستقرار في بعض الدول.


[١] الحرس الثوري يحتجز ناقلة نفط ترفع علم بنما، الحرة، 2 مايو 2023، متاح على:
https://cutt.us/QRdHU

 [٢] البحرية الأمريكية: الحرس الثوري الإيراني احتجز سفينة تجارية في المياه الدولية في الخليج، فرانس 24، 6 يوليو 2023، متاح على:
https://cutt.us/MH4gY

 [٣] مرة أخرى.. إيران تحتجز سفينة استكشاف أمريكية مسيرة وتفرج عنها، إيران انترناشيونال، 22 سبتمبر 2022، متاح على:
https://www.iranintl.com/ar/202209021523

[٤] البنتاجون يعتمد على فيديو في اتهام إيران بوقوفها وراء الهجوم على ناقلة نفط، فرانس 24، 15 يونيو 2019، متاح على:
https://cutt.us/AaknL

 [٥] مصادر يمنية: قاعدة عسكرية للحرس الثوري على البحر الأحمر، جسور، 7 سبتمبر 2022، متاح على:
https://cutt.us/TMeyI

 [٦] مركز أبحاث: إثيوبيا تستخدم طائرات مسيرة إيرانية الصنع، الشرق الأوسط، 18 أغسطس 2021، متاح على:
https://cutt.us/l3Xnq    

 [٧] شروق صابر، علاقات شائكة ... أهداف ودلالات التعاون بين إيران وحركة الشباب الصومالية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 1 ديسمبر 2021، متاح على:
https://acpss.ahram.org.eg/News/17336.aspx

إخلاء للمسئولية: تعبّر وجهات النظر المذكورة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المركز أو فريق العمل.

التعليقات