الرئيسية تقديرات الضربات الامريكية ضد الحوثيين: هل تفتح الباب لتغيير موازين القوي في اليمن؟
الضربات الامريكية ضد الحوثيين: هل تفتح الباب لتغيير موازين القوي في اليمن؟
تقديرات إتجاهات إقليمية ودولية

الضربات الامريكية ضد الحوثيين: هل تفتح الباب لتغيير موازين القوي في اليمن؟


مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، شهدت السياسة الأمريكية تجاه الحوثيين منعطفاً حاسماً، متجاوزة النهج التقليدي في التعامل مع الجماعة الإرهابية المدعومة إيرانياً. فقد انتقلت واشنطن من سياسة الردع المحدود المرتكزة على ضربات تكتيكية انتقائية إلى استراتيجية الردع الشامل التي تستهدف تقويض القدرات العسكرية والبنية القيادية للحوثيين بصورة جذرية.
تجسّد هذا التحول الاستراتيجي في سلسلة من الإجراءات المتصاعدة: إعادة تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية، تشديد العقوبات على قياداتهم، وتوسيع دائرة العمليات العسكرية لتشمل منشآت ومراكز قيادية تُعد حيوية لاستمرار قدراتهم العسكرية.
يثير هذا المنحى التصعيدي تساؤلات استراتيجية عميقة: هل تقتصر أهداف إدارة ترامب على تحييد تهديد الحوثيين للملاحة الدولية والمصالح الأمريكية في المنطقة؟ أم تتطلع واشنطن إلى إعادة تشكيل المشهد اليمني بأكمله من خلال إضعاف الحوثيين كقوة مهيمنة؟
وبالمثل، كيف يمكن لواشنطن تحقيق أهدافها الاستراتيجية بأدواتها المحدودة المتمثلة في الضربات الجوية والعقوبات الاقتصادية؟ وهل قد تلجأ مستقبلاً إلى تصعيد إضافي يشمل تدخلاً برياً مباشراً، أو دعماً عسكرياً لقوى يمنية مناوئة للحوثيين، سعياً لتغيير موازين القوى على الأرض؟

 

 الضربات العسكرية وبنك الأهداف 
شهدت الضربات الأمريكية ضد الحوثيين استخداماً مكثفاً لمنظومات هجومية عالية الدقة، مما يعكس تفوقاً استخباراتياً وتكنولوجياً واضحاً في استهداف مواقع حيوية للجماعة. فقد نُفّذت هذه الضربات باستخدام مزيج من الصواريخ الجوالة، القنابل الذكية، والطائرات المسيرة الهجومية، وهو ما مكّن من إصابة دقيقة للأهداف مع تقليل الخسائر الجانبية.
امتدت الضربات على نطاق جغرافي واسع، شملت صنعاء، الحديدة، صعدة، ذمار، الجوف، مأرب، والبيضاء، حيث تم استهداف مراكز القيادة والسيطرة، مخازن الأسلحة، ومنظومات الدفاع الجوي، إضافة إلى منشآت لوجستية تدعم العمليات القتالية للحوثيين. ففي صنعاء، تركز القصف على مواقع حساسة مثل حي الجراف، أحد المراكز الرئيسية للجماعة، بينما شهدت الحديدة استهداف مخازن الأسلحة والصواريخ المستخدمة في تهديد الملاحة الدولية. أما في صعدة وذمار، فقد ركزت الضربات على منصات إطلاق المسيرات والصواريخ الباليستية، مما أدى إلى تقليص القدرات الهجومية للجماعة في استهداف السفن التجارية والعسكرية في البحر الأحمر.
على المستوى العسكري، حدّت هذه الضربات من قدرة الحوثيين على شنّ هجمات بحرية وصاروخية، خاصة بعد تدمير الرادارات ومنصات الإطلاق، مما أضعف قدرتهم على استهداف السفن بدقة. كما أدى استهداف مراكز القيادة والاتصالات إلى اضطراب في التنسيق الميداني بين الوحدات الحوثية، ما انعكس في تراجع فاعلية ردودهم العسكرية حتى الآن. ومع ذلك، لا يزال الحوثيون يمتلكون قدرة على المناورة وإعادة الانتشار، كما أن استمرار الدعم اللوجستي والتسليحي عبر قنوات غير رسمية يتيح لهم إعادة بناء قدراتهم، مما يجعل استمرار الضغط العسكري ضرورة لتقويض نفوذهم على المدى الطويل.

 

ردود الفعل الحوثية: بين التهدئة والتصعيد
تراوحت ردود فعل الحوثيين على الضربات الأمريكية بين التصعيد العسكري والتصريحات الإعلامية التي تعكس مزيجاً من التحدي ومحاولات التهدئة التكتيكية. فعلى المستوى الإعلامي، حاولت الجماعة التقليل من تأثير الضربات عبر خطاب يركز على استمرار قدرتها على استهداف الملاحة الدولية، مع الإصرار على أن عملياتها موجهة ضد السفن "الإسرائيلية" وليس الأمريكية، في محاولة لتجنب تصعيد أكبر مع واشنطن.
أما على المستوى العسكري، فقد جاءت ردود الحوثيين محدودة ومرتجلة مقارنة بحجم الضربات التي تعرضوا لها. لم يتمكنوا حتى الآن من تنفيذ هجمات نوعية تعكس قدرتهم على الردع، واكتفوا بمحاولات استهداف بعض السفن في البحر الأحمر باستخدام الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية، لكنها قوبلت بإحباط فوري من قبل القوات الأمريكية والدولية. كما أن الجماعة لم تتمكن من إحداث ضرر استراتيجي يغير من معادلة المواجهة، مما يعكس تأثرها بالضربات الأخيرة التي أضعفت بنيتها العسكرية واللوجستية
يواجه الحوثيون تحدياً مزدوجاً يتمثل في الحفاظ على هيبتهم العسكرية أمام أنصارهم، مع تجنب مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة قد تؤدي إلى تصعيد أكثر خطورة. ومن المحتمل أن يحاولوا إعادة بناء قدراتهم الهجومية من خلال تعزيز الدعم الإيراني واتباع تكتيكات جديدة، مثل استهداف أصول أكثر حساسية كالقواعد الامريكية في المنطقة أو تكثيف هجمات الاستنزاف ضد حاملة الطائرات "يو إس إس ترومان". ومع ذلك، فإن استمرار الهجمات الأمريكية قد يدفعهم إلى مراجعة خياراتهم، خصوصاً إذا تعرضوا لخسائر موجعة.

 

دوافع التصعيد الأمريكي: أبعاد متعددة
وراء هذا التحول الاستراتيجي، تكمن دوافع أمريكية متشعبة تتجاوز البعد العسكري المباشر. فعلى الصعيد السياسي الداخلي، تسعى إدارة ترامب إلى ترسيخ نهج أكثر حزماً تجاه التهديدات الإيرانية ووكلائها في المنطقة، بما يعكس تحولاً جذرياً عن سياسات الإدارات السابقة التي اتُهمت بالتساهل مع طهران ووكلائها الإقليميين.
اقتصادياً، تدرك واشنطن الأهمية الاستراتيجية القصوى لحماية خطوط الملاحة الدولية في البحر الأحمر، والتي تشكل شرياناً حيوياً للتجارة العالمية والاقتصاد الأمريكي. فأي تهديد لهذه الممرات البحرية يمثل خطراً مباشراً على سلاسل الإمداد العالمية، وقد يؤدي إلى ارتفاع أسعار الشحن وتكاليف السلع الاستهلاكية، مما ينعكس سلباً على الاقتصاد الأمريكي والعالمي.
إقليمياً، تسعى الولايات المتحدة إلى استعادة ثقة حلفائها التقليديين في الخليج، خاصة بعد الانتقادات التي واجهتها واشنطن خلال فترة بايدن بسبب موقفها المتردد من هجمات بقيق النفطية. كما أن الضربات الأمريكية تهدف إلى إضعاف النفوذ الإيراني في اليمن، الذي يُعد آخر منصة متقدمة لطهران في المنطقة بعد تراجع نفوذها في لبنان وسوريا في ظل المواجهات الإسرائيلية الأخيرة مع حزب الله وحماس.

 

محددات فعالية الاستراتيجية الأمريكية
إن تقييم فعالية التصعيد الأمريكي الحالي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعدة محددات أساسية. المحدد الأول: هو مدى نجاح الاستخبارات الأمريكية في الوصول لمواقع القيادة والسيطرة، واختراق الهيكل القيادي للحوثيين والوصول تحديداً إلى قيادات الصف الأول. فسر صمود الحوثيين أمام عمليات "عاصفة الحزم" و"حارس الازدهار" يكمن في تأمينهم الاستخباراتي المتفوق لهيكلهم القيادي وتحصينه من الاختراق. وبغياب هذا الاختراق النوعي، ستظل الفوارق بين سياسة التصعيد التي انتهجها بايدن وتلك التي ينتهجها ترامب فوارق كمّية لا نوعية، محدودة التأثير على المدى الاستراتيجي.
المحدد الثاني: هو طبيعة العمليات العسكرية ونطاقها. فقد قدمت معركتا غزة وجنوب لبنان دروساً عسكرية مهمة، حيث أثبتتا أن إلحاق هزيمة حقيقية بالهياكل المسلحة شبه النظامية يرتبط أساساً بعاملين رئيسيين: النجاح الاستخباراتي والتدخل البري الفعال. أما القصف الجوي، مهما بلغت كثافته وقوته، فلا يعدو كونه عاملاً مساعداً، غير كافٍ بذاته لتحقيق نتائج حاسمة ومستدامة. وهنا يبرز التحدي الأساسي للاستراتيجية الأمريكية، إذ تبدو واشنطن غير مستعدة للانخراط في تدخل بري مباشر في اليمن، نظراً للتكلفة البشرية والسياسية الباهظة التي قد تترتب على مثل هذا التدخل.
المحدد الثالث: هو البعد السياسي والدبلوماسي المكمل للعمل العسكري. فتقويض القدرات العسكرية للحوثيين وتغيير موازين القوى على الأرض يستلزم مساراً سياسياً متكاملاً يفضي إلى تشكيل تحالف دولي واسع، يوفر الدعم اللوجستي والعسكري للقوى اليمنية المناهضة للحوثيين. كما يتطلب بلورة رؤية سياسية واضحة لمستقبل اليمن، تأخذ في الاعتبار مصالح جميع الأطراف اليمنية، وتضمن استقراراً سياسياً مستداماً. وبغياب هذه الرؤية، قد تنجح الضربات الأمريكية في إضعاف القدرات العسكرية للحوثيين مؤقتاً، لكنها لن تحقق تغييراً جوهرياً في المشهد اليمني على المدى البعيد.

 

وختاماً، في ظل التصعيد الحالي، يبدو أن الولايات المتحدة مصممة على مواصلة الضغط العسكري والاقتصادي على الحوثيين، مع الحرص على تقليل المخاطر السياسية والاستراتيجية المترتبة على ذلك. غير أن التجارب السابقة تثبت قدرة الحوثيين على امتصاص الضربات الجوية وإعادة تنظيم صفوفهم، مستفيدين من التضاريس الجبلية الصعبة، الهيكل التنظيمي الصلب، وشبكات الدعم الإقليمي والدولي، مما يجعل أي تأثير عسكري محدود ما لم يُرفَق بخطوات أوسع تشمل استراتيجية متكاملة لشلّ قدراتهم على المدى البعيد.
نجاح الاستراتيجية الأمريكية في تغيير موازين القوى لن يكون ممكناً من خلال الضربات الجوية وحدها، بل سيتطلب نهجاً متعدد الأبعاد يشمل: تكثيف العمليات الاستخباراتية لقطع خطوط الإمداد الإيرانية عبر بحر العرب وعُمان، تحالف وتنسيق عالي المستوى بين العواصم الفاعلة في الأزمة اليمنية (واشنطن، أبو ظبي، الرياض)، تعزيز الدعم العسكري والسياسي للقوى اليمنية المناهضة للحوثيين بقيادة المجلس الرئاسي، وخلق عزلة دبلوماسية خانقة تمنع الحوثيين من الاستفادة من قنوات الدعم المالي والعسكري الدولية، سواء عبر إيران أو شبكات التهريب غير المشروعة.
في المقابل، من المرجح أن يصعد الحوثيين لهجماتهم الانتقامية، سواء باستهداف السفن الأمريكية والغربية في البحر الأحمر، أو بشنّ عمليات أوسع ضد المنشآت لحلفاء واشنطن في المنطقة، بهدف دفع واشنطن إلى إعادة النظر في استراتيجيتها. كما أن استمرار الدعم الإيراني، سواء عبر تقنيات الصواريخ والمسيرات أو عبر وسائل غير تقليدية، قد يطيل أمد المواجهة، مما يعني أن الصراع مرشحٌ للاستمرار على شكل "حرب استنزاف" طويلة الأمد ما لم تتغير قواعد اللعبة جذرياً.

 

إخلاء للمسئولية: تعبّر وجهات النظر المذكورة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المركز أو فريق العمل.

التعليقات