الرئيسية تقديرات ارتفاع مخاطر التعثر: بنوك صنعاء على حافة الإفلاس
تقديرات برنامج الدراسات الاقتصادية

ارتفاع مخاطر التعثر: بنوك صنعاء على حافة الإفلاس


مقدمة
تتفاقم أزمة البنوك والمصارف في صنعاء، جراء السياسات المدمرة التي تنتهجها جماعة أنصار الله (الحوثيين)، خلال التسع السنوات الماضية، لتصبح هذه الأزمة مع مرور الوقت عصيةُّ على المعالجات ككرة من النار تندفع بقوة من أعلى نحو الأسفل، لتلتهم في طريقها كافة سبل العيش، والأنشطة الاقتصادية، مع تزايد سرعتها مدفوعة بعوامل أمنية وسياسية، لتزيد من كلفتها الباهظة على الوضع الاقتصادي والمعيشي بشكل عام. 
يلعب القطاع المصرفي دوراً حيوياً في نمو اقتصاديات الدول، من خلال توفير الأموال اللازمة لتمويل المشاريع لدفع عجلة الاستثمارات والنهوض بالاقتصاد الوطني، لكنّ ما تواجهه البنوك التجارية والمصارف في اليمن من مخاطر وتعثر، قد تؤدي بها إلى الشلل التام، مع انعدام البيئة الآمنة للعمل التجاري، في مناطق جماعة الحوثي، فضلا عن ممارساتها التي أدت إلى ندرة السيولة، وعجز البنوك عن الإيفاء بالتزاماتها المالية.

بدء الأزمة 
بدأت أزمة البنوك، مع عدم حصولها على عوائد استثمارات أذون الخزانة لدى البنك المركزي بصنعاء، منذ العام 2016، ما تسبب بأزمة سيولة حادة لدى البنوك، حيث عجزت بعضها على دفع ودائع المودعين والعملاء. (1) تضاعفت أزمة القطاع المصرفي، مع شروع مركزي صنعاء التي تديره جماعة الحوثي، على تحويل استثمارات البنوك في أذون الخزانة إلى أرصدة حسابات جارية لديه غير قابلة للسحب حتى لا يحتسب لهم أي فوائد عليها. (2)
هذه الممارسات التي قامت بها جماعة الحوثيين عبر إدارة البنك المركزي في صنعاء بحق البنوك التجارية، أسهمت في تراجع الثقة في النظام المصرفي لدى التجار اليمنيين ورجال الأعمال، وهو ما أدى إلى تدفقات مالية ضخمة من شبكات الأموال الرسمية إلى الشبكات غير الرسمية. (3)

منذ ذلك الحين، واجهت البنوك أزمة سيولة متزايدة في العملات الأجنبية والمحلية على حد سواء، مع تناقص أوراق الريال اليمني المتداولة والمتوفر منها للإيداع في البنك المركزي اليمني، كما دفعت أزمة السيولة بصنعاء، بنوكا تجارية إلى التعامل بالريال السعودي.
في مارس من العام الماضي، أقرّ مجلس النواب فاقد النصاب الموالي لجماعة الحوثي في صنعاء، قانوناً يقضي بإلغاء جميع الاتفاقيات الدولية الموقعة عليها، ومصادرة جميع فوائد المودعين في البنوك، وكذلك مصادرة كل أرباح البنوك من أذون الخزانة والصكوك ومصادرة ديونها، تحت مبرر مكافحة الربا. (4)
منع هذا القانون، كل التعاملات التي تتضمن الفائدة أو المساهمة أو الأرباح أو العمولة، كما جرّم صيغ المرابحة التي تمثل 90 في المائة من أنشطة البنوك الإسلامية، وجرّم البيع بالتقسيط الآجل، وبيع الوفاء وبيع الدين وغيرها، وهو ما أدى إلى حرمان البنوك من أكبر نسبة من إيراداتها المتمثلة بالفوائد، والتي تبلغ أكثر من 80%، فضلاً عن إحلال شركات الصرافة محل الجهاز المصرفي في كافة التعاملات والخدمات التي تقدمها البنوك التجارية، خصوصاً مع ما تعانيه البنوك من شحة شديدة في السيولة، وسيطرة الجهاز المصرفي غير الرسمي على النسبة الأكبر من الكتلة النقدية في السوق. (5)
هذه الممارسات التي قامت بها جماعة الحوثي، دفعت بالعديد من البنوك والمصارف إلى حافة الإفلاس، حيث بادر عملاء إلى سحب ودائعهم من البنوك، إلا أن هذه البنوك عجزت عن الإيفاء بالتزاماتها المالية، نتيجة الاستيلاء عليها من قبل البنك المركزي بصنعاء.
تضاعفت الأعباء على الاقتصاد الوطني والقطاع المصرفي، لاسيما مع ما يمثله القطاع البنكي من شريان حيوي، لمجمل الأنشطة الاقتصادية والواردات، حيث تعتمد بلادنا في تلبية احتياجاتها الغذائية ومستلزمات الإنتاج على التجارة الخارجية، بالإضافة إلى النقد الأجنبي من خلال تحويلات المغتربين وتلك العمليات التجارية التي تتم من خلال الاعتمادات المستندية، والتي تقوم البنوك المحلية بتغطية حساباتها في الخارج لتمويل الواردات.
خلّف قرار منع الفائدة عواقب سلبية على الوضع الاقتصادي، لاسيما وأنه جاء في ظل وضع حرج للغاية، مع غياب الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلد، إضافة إلى أنه جاء في ظل وجود ديون واستحقاقات متراكمة بمبالغ ضخمة بتعاملات بنكية ستصبح ممنوعة وهي تستدعي السداد قبل التحول الفوري، في الوقت الذي تفتقر فيه الحكومة وبقية القطاعات للأموال اللازمة لتصفية هذه الديون.

شحة السيولة 
في منتصف مايو من العام الجاري، شهدت العاصمة صنعاء احتجاجات غير مسبوقة أمام البنوك التجارية الخاصة، شارك فيها عشرات المودعين الذين طالبوا بالإفراج عن ودائعهم المُحتجزة، بعد توقف البنوك عن صرف المبالغ المالية المحدودة التي كانت تُصرف للمودعين كأقساط. (6)
مثّل قانون منع الفائدة الذي مررته جماعة الحوثي في مارس 2023، القشة التي قصمت ظهر البعير، وأفقدت البنوك التجارية والمصارف الإسلامية أهم وظائفها المالية والمصرفية، لتغدوا هذه البنوك مهددةَ بالإفلاس، مع عجزها عن مواجهة التزاماتها المالية، وشلل الحركة المالية والمصرفية، الأمر الذي أدى إلى قيام بعض البنوك بتسريح مدراء إدارات، وفروع ورؤساء الاقسام وموظفين، خلال نوفمبر من العام 2023. (7)
وخلال عملية البحث والتقصي عن أوضاع البنوك في صنعاء، حصل محرر هذه المادة، على معلومات تفيد بأن بعض الأقسام والأعمال في البنوك والمصارف، لم تعد تقدم أي خدمات، بسبب أزمة السيولة، في حين اقتصرت بعض الإقسام على العمل بعدد لا يزيد عن خمسة موظفين بالفرع الواحد، لإدارة الفرع وتنفيذ الأعمال. 
تعددت الوجهات المصرفية، التي طرحنا عليها الاستفسارات والأسئلة بالمتعلقة بهذه الأزمة، حيث أرجعت بعض المصادر المسؤولة ندرة السيولة إلى احتجاز أرصدة البنوك، من قبل البنك المركزي بصنعاء الذي تديره جماعة الحوثي.
استفحلت مأساة البنوك، مع ضخامة المبالغ المحتجزة من قبل مركزي صنعاء، حيث كانت البنوك التجارية تستثمر أغلب أرصدتها إضافة إلى ودائع العملاء، في اذون الخزانة، أدوات الدين العام بالبنك المركزي بصنعاء، منذ ما قبل سيطرة جماعة الحوثي على البنك في نهاية 2014.
تداعيات الممارسات الحوثية المقوضة للقطاع المصرفي، دفعت بنوك تجارية، إلى دفع رواتب موظفيها بشكل جزئي، وعلى فترات طويلة، والسحب وفقاً لحجم السيولة المتوفرة، من خمسة آلاف إلى خمسة عشر آلاف باليوم الواحد.
على أن الضربة الأعنف التي تلقتها البنوك خلال هذه الأزمة، هو الشلل الكبير الذي أصابها في التعامل مع القطاع التجاري، حيث تراجعت نسبة الإقبال من قبل التجار والمستوردين على الإيداع في البنوك، كونهم لا يستطيعون الحصول على ودائعهم بعد ذلك، حالما أرادوا سحب حقوقهم وودائعهم، وهو مؤشر على انعدام الثقة في التعامل مع القطاع البنكي، وهشاشة الوضع القائم في الجانب المالي والمصرفي.
هذه الظواهر المدمرة التي أصابت البنوك والمصارف في مناطق سيطرة جماعة الحوثي، كلها تعود إلى السياسات التي انتهجتها الجماعة في تعاملها مع البنوك، لتزداد الأوضاع سوءاً بعد صدور قرار منع التعاملات الربوية، في مارس 2023.

شلل العمل البنكي 
وفي الحقيقة أن آثار هذا القرار لم تصب البنوك التجارية فحسب، بل شملت المصارف الإسلامية، من خلال منع التعامل بصيغ المرابحة، وهي الشائعة في الاستخدام لدى البنوك الإسلامية، حيث تُقرها كافة المذاهب الإسلامية.
شملت جوانب الاستهداف من قبل جماعة الحوثي، ضد القطاع المصرفي، في البدء بتجميد أرصدة البنوك التقليدية التي كانت مخصصة للاستثمار في الدين الحكومي وعادتها (أذون الخزانة)، ومن ثمّ منع البنوك الاسلامية من تسييل ما لديها من أصول استثمارية كأراضي وعقارات، وعدم السماح ببيعها والتصرف بها، إلا بعد موافقة البنك المركزي بصنعاء، الأمر الذي جعل هذه البنوك عاجزة عن التصرف بأصولها وممتلكاتها، تنتظر شبح الإفلاس والانهيار.
يشير هذا الأمر بوضوح إلى مدى الاستهداف الحوثي لحركة المال، حيث تعتمد المصارف الإسلامية، في جزء كبير من أنشطتها على الجانب العقاري، من خلال صيغة المرابحة، كونها لم تشارك في الاستثمار بأدوات الدين العام، أذون الخزانة.
عدم حصول المودعين على ودائعهم وحقوقهم من البنوك التجارية، دفع بالبعض منهم – وفقا لإفادات مؤكدة حصل عليها معد الورقة – دفع بهم للذهاب والشكوى لدى مركزي صنعاء، لكنّ البنوك ترد مباشرة بأن أرصدتها وأموالها محتجزة لدى البنك المركزي بصنعاء، وهو السبب الرئيسي في عجز البنوك عن تسليم ودائع العملاء.
ولجأت بعض البنوك إلى استخدام أموال المودعين، المودعة من بعد الفترة 2018 و2020 ، في مواجهة طلبات العملاء العاديين، والتي تتراوح المبالغ من 50 الى 100ألف بالشهر الواحد، حتى وصل الوضع الى عدم القدرة على دفع أدنى مبلغ من طلبات سحبيات العملاء، طبقاً لشهادات العديد من العاملين في القطاع البنكي.
عملية تجميد أرصدة البنوك، في البنك المركزي بصنعاء، بدأت خلال العام 2016، بعد أن قررت الحكومة المعترف بها دولياً نقل البنك المركزي اليمني، إلى العاصمة المؤقتة عدن، وهو ما كان يًفسر حينها محاولة لمنع نقل المقرات الرئيسية للبنوك من صنعاء، حيث عمدت جماعة الحوثي على تجميد كافة أموال البنوك لدى البنك المركزي بصنعاء، من احتياطات كانت تستخدمها البنوك لتغطية الاعتمادات المتسندية والحوالات الخارجية، التي تستخدم أيضاُ لاستيراد كافة أصناف السلع.
الخطوة التالية لجماعة الحوثي، كانت في العام 2019، خلال إجازة عيد الأضحى، حيث اعتقلت جماعة الحوثي، قيادات البنوك، والسطو على أنظمة السيرفرات من الإدارات العامة للبنوك في صنعاء، وجرى إرغام كافة البنوك التي تتواجد مقراتها الرئيسية بصنعاء، على توريد الأرصدة، التي تم إقفالها خلال آخر يوم من الدوام قبل إجازة عيد الأضحى من العام نفسه، إلى البنك المركزي بصنعاء، وفروعه في المناطق التي تديرها جماعة الحوثي. 
تؤكد المصادر المصرفية، على أن هذه الخطوة شكلت مرحلة فاصلة، في سلسلة التقويض المباشر التي تعرضت لها البنوك والمصارف، من قبل جماعة الحوثي، حيث بررت الجماعة، نهب أرصدة البنوك، بأنها محتجزة لدى جهاز الأمن والمخابرات. 
تسميم البيئة المصرفية من قبل جماعة الحوثي، وإضرارها بالأنشطة الاقتصادية والمالية، أدى إلى جمود شبه كلي، في نشاط القطاع البنكي، حيث أقدم أحد البنوك خلال العام الماضي، على إغلاق فروعه في المحافظات، وتسريح الموظفين ولم يبقي إلا على فرعيه في صنعاء والحديدة.
تراجعت أنشطة البنوك وعجزت عن دفع ودائع المودعين، على الرغم من امتلاكها أرصدة ضخمة، محتجزة لدى جماعة الحوثي في البنك المركزي بصنعاء، لتجد بعض المصارف نفسها عاجزة عن سداد مصاريف فواتير ضرورية الكهرباء والمياه، والرسوم الحكومية، كالتأمينات، والضرائب على رواتب الموظفين لأكثر من عامين، علاوة على عدم قدرتها دفع رواتب الموظفين، التي وصل ببعض الفروع بأنها تدفع للموظف عشرة ألف ريال، ومع هذا يعجز عن استلامه من الحساب البنكي، لضعف السيولة.

لماذا الاستهداف؟
من خلال المعلومات التي حصلنا عليها من القطاع المصرفي، يتضح لنا دوافع هذا الاستهداف للبنوك التجارية والمصارف الإسلامية، أبرزها وجود مساعٍ وتوجهات لجماعة الحوثي، لإعادة تشكيل القطاع البنكي الذي يعمل منذ عقود، وإنشاء قطاع مصرفي جديد ينتمي للطبقة الطفيلية التي أثرت من الحرب وراكمت أموالها من خلال تجارة الحرب وأدواتها والتي تستخدم بعيداً عن الأطر القانونية والقواعد الحاكمة للقطاع المصرفي الدولي، وتمثل ذلك بإنشاء العشرات من منشآت الصرافة والتي بات تهيمن على سوق الصرف في المناطق التي تديرها جماعة الحوثي، ويجري حالياً العمل على تحولها بنوك للتمويل الأصغر، كما ظهرت بوادر تحركات لإعادة تشغيل البنوك التي تسيطر عليها جماعة الحوثي، مثل كاك بنك، والبنك اليمني للإنشاء والتعمير، حيث تحتفظ الجماعة بإيراداتها وأرصدتها، وعينت لها أعضاء مجالس للإدارة.
استهداف البنوك القائمة، ظل هدفاً لجماعة الحوثي منذ سيطرتها على العاصمة صنعاء، حيث تسعى الجماعة لإنشاء كيان مالي بديل، من خلال قيامها بالدفع بمنشآت الصرافة التابعة لها إلى التحول إلى بنوك للتمويل الأصغر، والاستحواذ على النشاط المالي، التي كانت تشغله البنوك والمصارف المعروفة.
ما يحدث من تقويض مستمر للقطاع البنكي بصنعاء، لن يخرج عن سياق التضييق الشامل الذي يتعرض له القطاع الخاص بشكل عام، من خلال استهداف البيوت التجارية، وإنهاك رأس المال الوطني، ودفعه للمغادرة خارج البلد، وإحلال تجار تابعين لها بهدف إحكام سيطرة جماعة الحوثي على الاقتصاد اليمني، وبالقلب منه القطاع المصرفي.
________________________

هوامش 
1- مصير مجهول لاستثمارات البنوك في أذون الخزانة – المشاهد نت- 12يونيو 2023- https://almushahid.net/115026/ 
2- الحوثي تدفع القطاع المصرفي إلى الهاوية- 30 مارس 2023 – المصدر أونلاين –متاح على الرابط -  https://almasdaronline.com/articles/271765 
3- التخفيف من الانعكاسات السلبية لانقسام البنك المركزي على القطاع المصرفي اليمني-   9مارس 2023- مركز صنعاء للدراسات – متاح على الرابط  https://sanaacenter.org/ar/publications-all/analysis-ar/19668
4- بهدف الاستيلاء على فوائد المودعين.. الحوثي تصدر قانون البنوك في مناطق سيطرتها- 21 مارس 2023- يمن شباب نت -https://yemenshabab.net/news/83576 
5- الحوثي تدفع القطاع المصرفي إلى الهاوية- 30مارس 2023 – المصدر أونلاين - https://yemenshabab.net/news/83576 - 
6- أزمة السيولة في بنوك صنعاء تنذر بتكرار السيناريو اللبناني- 13 مايو 2024  - العربي الجديد –متاح على الرابط   https://www.alaraby.co.uk/economy/ 
٧- مقابلات اجراها الباحث مع مصرفيين، يوليو ٢٠٢٤.


 

إخلاء للمسئولية: تعبّر وجهات النظر المذكورة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المركز أو فريق العمل.

التعليقات