نقلت العملية التي نفذتها المليشيا الحوثية، في 19 نوفمبر الجاري (2023)، باختطاف سفينة الشحن "جلاكسي ليدر" في البحر الأحمر واقتيادها إلى أحد الموانئ اليمنية، التصعيد مع إسرائيل إلى مستوى جديد. فقد انخرطت المليشيا في هذا التصعيد في مرحلة ما بعد بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة رداً على عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها كتائب القسام- الذراع العسكرية لحركة حماس- داخل غلاف غزة في 7 أكتوبر الفائت. لكن هذا الانخراط اقتصر على استخدام الصواريخ الباليستية والطائرات من دون طيار التي تم اعتراضها بواسطة منظومات الدفاع الجوي.
وبمعنى آخر، فإنه لأول مرة منذ بداية الحرب الحالية في قطاع غزة، تلجأ المليشيا الحوثية إلى تبني هذه الآلية في إدارة الصراع مع إسرائيل. وربما يمكن القول إنها حاولت في المرحلة الماضية استشراف ردود فعل إسرائيل إزاء التصعيد معها، وتقييم المدى الذي يمكن أن تصل إليه في هذا التصعيد، ومن ثم فإنها تعمدت رفع مستوى هذا التصعيد عندما لم تتلق رداً مضاداً من جانب إسرائيل، على غرار ما فعلت الأخيرة عندما شنت هجمات عسكرية ضد المليشيات الموالية لإيران، في لبنان وسوريا والعراق.
وبصرف النظر عن إصرار إسرائيل على نفى تبعية السفينة لها وتأكيد أنها لا تحمل إسرائيليين وليست تابعة لأى جهة إسرائيلية (رغم أن هناك تقارير تشير إلى أنها تتبع لرجل أعمال إسرائيلي بالفعل)، فإن الرسالة التي سعى الحوثيون إلى توجيهها بدا أنها بالفعل وصلت إلى هدفها.
هذه الرسالة تتمثل في أنه إذا كانت الصواريخ الباليستية والطائرات من دون طيار التي أطلقها الحوثيون باتجاه إسرائيل في الفترة الماضية لم تُكبِّد إسرائيل خسائر بشرية أو مادية، باعتبار أن معظمها تم اعتراضه قبل أن تصل إلى أهدافها، فإن لدى المليشيا آليات أخرى يمكن من خلالها أن تصل إلى أهداف إسرائيلية مؤثرة أو حيوية، على غرار اختطاف سفن الشحن التابعة للأخيرة، وهو ما هدد به زعيم المليشيا عبد الملك الحوثي قبل إقدامها على العملية الأخيرة.
وهنا، فإن ذلك يمثل نوعاً من التماهي مع الآليات التي تستند إليها إيران في إدارة تصعيدها غير المباشر مع إسرائيل في مرحلة ما قبل اندلاع الحرب الحالية في قطاع غزة. فقد كانت إيران ترد على العمليات الاستخباراتية التي تقوم بها إسرائيل داخل منشآتها النووية والعسكرية، عبر استهداف سفن شحن تابعة لإسرائيل في المياه القريبة من اليمن. وكانت إيران تهدف عبر ذلك إلى رفع كُلفة هذه العمليات التي وجهت اتهامات مباشرة لجهاز "الموساد" بالمسؤولية عنها، بعد أن أدت هذه العمليات إلى تعرض بعض المنشآت النووية لأضرار نوعية، على غرار منشأة "ناتانز" لتخصيب اليورانيوم التي تعرضت لهجومين متتاليين في 2 يوليو 2020 و12 أبريل 2021، فضلاً عن أنها أسفرت عن اغتيال بعض العلماء النوويين مثل رئيس مؤسسة الأبحاث والتطوير في وزارة الدفاع الإيرانية محسن فخري زاده الذي قتل في 27 نوفمبر 2020.
الساحة الأهم
هذا التصعيد النوعي الذي يمكن أن ينقل المواجهة بين المليشيا الحوثية وكل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية إلى مرحلة جديدة، يطرح دلالة مهمة تتعلق بأنه من بين كل الدول التي تتواجد فيها المليشيات المسلحة الموالية لإيران، تبدو اليمن هى الساحة المرشحة لمزيد من التصعيد مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية مقارنة بدول مثل لبنان وسوريا والعراق. ويمكن تفسير ذلك في ضوء اعتبارات رئيسية ثلاثة هى:
وهنا، فإن المليشيا ربما تتوقع أن تكون لهذه الخطوة، التي يمكن أن تتبعها خطوات أخرى مماثلة ما لم يكن هناك رد فعل مضاد، كُلفة على الصعيد العالمي. هذه الكُلفة قد لا تتوقف عند رفع رسوم التأمين على الحركة التجارية على مستوى العالم، التي يعبر معظمها عبر باب المندب والبحر الأحمر، وإنما قد تصل، في مرحلة لاحقة، إلى حد التأثير على أسعار الطاقة، وهو المتغير الذي يفرض ضغوطاً قوية على القوى الدولية، لا سيما الدول الغربية، التي واجهت أزمة في هذا السياق في مرحلة ما بعد اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية بداية من 24 فبراير 2022، بعد أن أوقفت روسيا إمدادات الطاقة إلى الدول الأوروبية.
ويمثل ذلك أيضاً مؤشراً آخر للتماهي الحوثي مع إيران، التي سبق أن وجهت تهديدات باستهداف حركة التجارة العالمية سواء في مضيق هرمز أو في باب المندب والبحر الأحمر، رداً على العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية عليها بداية من 7 أغسطس 2018 بعد انسحابها من الاتفاق النووي في 8 مايو من العام نفسه، وهى العقوبات التي أدت إلى انخفاض مستوى الصادرات النفطية الإيرانية بشكل كبير، قبل أن تنجح إيران بعد ذلك في الالتفاف عليها تدريجياً ورفع مستوى هذه الصادرات مجدداً.
تصعيد مشروط
على ضوء ما سبق، يمكن القول إن الخطوة التصعيدية الجديدة التي أقدمت عليها المليشيا الحوثية قد تستتبعها خطوات أخرى، وهو توجه سوف يرتبط في كل الأحوال بمتغير رئيسي يتمثل في ردود فعل القوى المعنية بما يجري.
وهنا، يمكن القول إن هذه القوى قد تلجأ إلى خيارين رئيسيين: أولهما، تبني الآلية السابقة نفسها عبر محاولة تقليص أو تحييد التداعيات السلبية التي يمكن أن يفرضها هذا التصعيد الحوثي، على غرار المرحلة السابقة التي اقتصرت على صد الهجمات الحوثية بواسطة المنظومات الدفاعية، بما يعني أن هذه القوى قد تلجأ في هذه الحالة إلى تكثيف تحركاتها العسكرية بالقرب من خطوط المواصلات العالمية لمنع المليشيا من تكرار هذه العملية.
وثانيهما، توجيه ضربات عسكرية مضادة للمليشيا الحوثية على غرار ما يحدث مع المليشيات المسلحة الأخرى. وهنا، فإن هذه الضربات قد لا يكون مصدرها إسرائيل فحسب، وإنما ربما تشارك فيها الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبار أن التأثيرات المحتملة التي قد تفرضها عملية اختطاف سفينة الشحن تتجاوز مصالح إسرائيل وتمتد إلى مصالح القوى الكبرى.
من دون شك، فإن المليشيا الحوثية تضع في اعتبارها هذين الخيارين، ويبدو أنه سوف تبني قرارها القادم إزاء المستوى الذي يمكن أن تصل إليه عملية التصعيد مع إسرائيل بناءً على الخيار الذي سوف تلجأ إليه القوى المعنية. وبالطبع، فإن حسابات إيران لا تبدو بعيدة عن هذا السياق، باعتبار أن التوجه الحالي للمليشيا اتخذ من البداية بضوء أخضر من جانب طهران، رغم حرص الأخيرة على نفى ضلوعها في إدارة التصعيد الذي يجري بين إسرائيل ووكلاءها في المنطقة، ورفض تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التي وصف فيها الخطوة الحوثية بأنها "عملية اختطاف إيرانية".
إخلاء للمسئولية: تعبّر وجهات النظر المذكورة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المركز أو فريق العمل.
التعليقات