قمع الذاكرة: استراتيجية الحوثيين في تفكيك الهوية الجمهورية
- 13 Oct 2025
في العيد الثالث والستين لثورة الـ26 من سبتمبر 1962، تحولت شوارع صنعاء وبقية المحافظات التي تسيطر عليها مليشيا الحوثيين من فضاء احتفالي إلى ساحة مطاردة. لم تعد الأعلام الجمهورية ترفرف في الميادين، بل أصبحت دليل إدانة. ولم يعد النشيد الوطني يُردد في المدارس، بل تحول إلى فعل تمرد يستوجب العقاب. المشهد يلخص صراعاً أعمق من السياسة: إنها معركة السيطرة على الذاكرة ذاتها.
ما جرى في سبتمبر 2025 لم يكن مجرد قمع أمني عابر، بل كان فصلًا جديداً في مشروع ممنهج لإعادة تشكيل الوعي الجمعي اليمني. مليشيا الحوثي، بعد سنوات من تثبيت نفوذها العسكري، باتت تسعى إلى ما هو أخطر: السيطرة على الذاكرة الوطنية، وإعادة صياغة الهوية اليمنية لتتوافق مع أيديولوجيا طائفية تستعيد منطق الإمامة بأدوات القرن الحادي والعشرين.
تسعى هذه المادة إلى قراءة حملة الاعتقالات والانتهاكات الأخيرة في سياقها الرمزي والسياسي والاجتماعي، بوصفها جزءاً من مشروع أوسع لإعادة صياغة الهوية الوطنية واستبدالها بهوية طائفية مغلقة، وتحليل دلالات الأرقام المقلقة التي رافقتها، وأثرها على الذاكرة اليمنية الجامعة.
أرقام القمع ومؤشرات الخوف
تشير التقارير الحقوقية إلى أن شهر سبتمبر 2025 وحده شهد أكثر من 1063 حالة اعتقال في المناطق الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثي، بينها 613 حالة في صنعاء وأمانة العاصمة وحجة وعمران وذمار وإب وصعدة والمحويت والحديدة. كما وثّقت الشبكات الحقوقية المحلية 123 مداهمة منزلية على خلفية نية المواطنين الاحتفال بذكرى الثورة ، وتم اعتقال أطفال لا تتجاوز أعمارهم خمس سنوات في عمران بعد إشعالهم للشعلة الرمزية للثورة (١).
منظمة "إرادة" لمناهضة التعذيب قدمت تقريراً مفصلاً إلى مجلس حقوق الإنسان في جنيف، كشفت فيه عن 1969 حالة اختفاء قسري داخل المعتقلات الحوثية، 203 حالات منها من النساء (٢). هذه الأرقام تعكس نمطاً ممنهجاً لا يقتصر على مناسبات معينة، بل يشكل سياسة دائمة لخنق أي صوت جمهوري. أكدت منظمة العفو الدولية اعتقال محامي المعتقلين الأبرز عبد المجيد صبره، في 25 سبتمبر بسبب منشوراته التي أحيت ذكرى الثورة، فيما لم يُكشف حتى اليوم عن مكان احتجازه (٣).
لم يقتصر القمع على الفضاء العام. بل فرضت الجماعة قيوداً صارمة على النساء شملت منع السفر دون محرم وتضييق فرص العمل والتعليم، انتهاك الخصوصية من خلال المداهمة والتفتيش، في محاولة لإعادة المرأة اليمنية عقوداً إلى الوراء.
"الزينبيات" -الوحدة النسائية الأمنية التابعة للحوثيين- تحولت إلى أداة رقابة على الحياة الخاصة. التفتيش الجسدي للنساء، تفتيش ومصادرة الهواتف، التدخل في اللباس والسلوك الاجتماعي، كلها مؤشرات على أن المشروع الحوثي لا يسعى فقط للسيطرة السياسية، بل لإعادة تشكيل النسيج الاجتماعي بالكامل وفق رؤية طائفية متشددة ترى في المرأة تهديداً يجب السيطرة عليه.
هذا التضييق على النساء ليس منفصلاً عن حملة قمع الذاكرة الوطنية. كلاهما يهدف إلى تفكيك الهوية الجمهورية التي قامت على مبادئ المساواة والمواطنة، واستبدالها بنظام عنصري يقوم على الولاء المطلق للجماعة، والتراتبية الاجتماعية والدينية الصارمة.
طمس الذاكرة واستبدال الهوية
لا يكتفي المشروع الحوثي بالقمع الظاهر كمنع الاحتفالات، ومصادرة الأعلام، واعتقال المشاركين في إحياء المناسبات الوطنية، بل يتعداه إلى إعادة تشكيل الوعي الجمعي بما يخدم أيديولوجيته الطائفية، فالجماعة تسعى إلى طمس الهوية الجمهورية لليمن، واستبدالها بهوية طائفية عنصرية قائمة على الولاء للقيادة الحوثية.
تعمل الجماعة على إحلال شعاراتها الخاصة، كـ"الصرخة"، محل رموز ثورة 26 سبتمبر، وتستبدل المناسبات الوطنية باحتفالات مذهبية مثل "المولد النبوي" و"ذكرى الشهيد". المدارس تُجبر على ترديد أناشيد تمجد الجماعة، والمساجد تتحول إلى منابر لتكريس مفاهيم "الولاية"، بينما تعاد صياغة المناهج الدراسية لتكريس سردية الحوثيين عن التاريخ والمجتمع.
هذا التغيير لا يقتصر على الخطاب، بل يمثل عملية منهجية لإعادة برمجة الوعي العام، تهدف إلى فصل الأجيال الجديدة عن جذورها الجمهورية، وتنشئتها على قيم الطاعة والولاء الطبقي، بحيث تصبح مفاهيم مثل المواطنة المتساوية والحرية غريبة عن وعيها.
تُدرك جماعة الحوثي أن ثورة 26 سبتمبر ليست مجرد مناسبة تاريخية، بل هي الرمز المؤسس لهوية اليمن الحديثة، واللحظة التي أنهت الحكم الإمامي وأطلقت مشروع الدولة الجمهورية. من هنا ينبع خوفها من أي مظاهر لبعث هذه الذكرى، لأنها تُمثّل نقيضاً مباشراً لوجودها الأيديولوجي والسياسي. لذلك، فإن ممارسات القمع ليست إلا أدوات لتفريغ الذاكرة الوطنية من مضامينها التحررية، وقطع السلسلة الرمزية التي تربط اليمنيين بتاريخهم المقاوم.
يتجاوز هذا المشروع محو التاريخ إلى محاولة تشكيل سلوك المجتمع ذاته. إن ممارسات مثل التفتيش الجسدي للنساء، ومصادرة الهواتف على يد "الزينبيات"، تعبّر عن رغبة في إخضاع الجسد والفضاء الخاص لمنطق الرقابة والسيطرة. هكذا تتحول الطاعة السياسية إلى طاعة اجتماعية ونفسية، ويُعاد إنتاج الخضوع داخل تفاصيل الحياة اليومية، بحيث يصبح الولاء للجماعة بديلاً عن الولاء للوطن.
من الخوف إلى السيطرة الكاملة
حين يُعتقل طفل لأنه أوقد شعلة، وحين تُداهم منازل لمجرد الاشتباه في نية الاحتفال، وحين يُخفى محامٍ قسرياً بسبب منشور على فيسبوك؛ فإن الرسالة التي تصل للمجتمع واضحة: حتى التفكير خطر. هذه الممارسات تخلق حالة من الخوف المزمن تخترق نسيج الحياة اليومية. الناس تتوقف عن الحديث في الأماكن العامة، تحذف منشوراتها على وسائل التواصل، تتجنب أي فعل قد يُفسَّر كمعارضة. الرقابة الذاتية تصبح أقوى من الرقابة الرسمية. أما حين يتزامن هذا القمع مع أزمة إنسانية خانقة -الجوع، المرض، انهيار الخدمات- فإن المواطن يصبح محاصراً بين قهرين: اقتصادي وأمني. الإنسان الجائع المريض الخائف يفقد قدرته على المقاومة، ويصبح أكثر قابلية للانصياع.
هذه ليست سياسة أمنية عابرة، بل هندسة اجتماعية شاملة تهدف إلى إنتاج مجتمع منزوع الإرادة، مجتمع يعيش داخل هوية مفروضة لا يملك القدرة على تجاوزها أو حتى مساءلتها. لقد تجاوز الصراع في اليمن الخطوط العسكرية والجغرافيا السياسية. إنه صراع على المعنى والهوية والذاكرة. من يملك الحق في تعريف ما يعنيه أن تكون يمنياً؟ من يحدد رموز الوطن وقيمه ومرجعياته التاريخية؟
جماعة الحوثي تسعى إلى فرض إجابة واحدة: اليمن هو ما تعرّفه الجماعة. الهوية اليمنية يجب أن تتطابق مع الولاء لقيادتها الطائفية. التاريخ يُقرأ من خلال عدسة أيديولوجيتها. المستقبل يُرسم وفق رؤيتها الخاصة. هذا يعني إلغاء التعددية الثقافية والسياسية التي شكلت اليمن، واستبدالها بأحادية قسرية تحاول محو كل اختلاف وتنوع. إنها محاولة لاحتلال الوعي قبل الأرض، ولتفكيك الروح الوطنية قبل مؤسسات الدولة والمجتمع.
خاتمة: الذاكرة لا تموت
إن حملة الاعتقالات والانتهاكات التي رافقت عيد ثورة الـ 26 من سبتمبر، ليست مجرد حدث عابر، بل تمثل ذروة لمسار طويل تسعى فيه جماعة الحوثي إلى احتكار التاريخ وإعادة تعريف اليمن وفق رؤيتها الخاصة. فهي تدرك أن السيطرة على الذاكرة هي الشكل الأعمق من السيطرة، وأن طمس الرموز أخطر من تدمير الجسور.
مع ذلك، فإن التاريخ يعلّمنا أن الذاكرة الوطنية لا تموت بالقهر. فالثورات لا تُمحى من دفاتر الشعوب، بل تعود متجددة حين يشتد الظلام. كل علم رُفع خفية في سطح منزل، وكل شعلة أُوقدت سراً في واد أو سهل أو فوق جبل، وكل قصيدة أو منشور استذكر سبتمبر، هو فعل مقاومة رمزية ضد مشروع الطمس والهيمنة.
إن الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر اليوم ليس مجرد واجب وطني أو دفاع عن مجرد مناسبة وطنية، بل هو معركة وعي وكرامة، وأكثر من ذلك هو معركة وجود. معركة لتأكيد حق اليمنيين في تحديد هويتهم بأنفسهم، في امتلاك ذاكرتهم، في رسم مستقبلهم. معركة لإثبات حق الأجيال القادمة في معرفة أن أجدادها رفضوا يوماً الاستبداد، وأطلقوا مشروعاً وطنياً جامعاً قام على الكرامة والمساواة، وهكذا مشاريع لا تموت.
(١) المليشيا الحوثية الإرهابية تعتقل ١٠٦٣ شخصا على خلفية الاحتفال بثورة سبتمبر، وكالة سبأ، ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٥، https://www.sabanew.net/story/ar/135230?utm_source=chatgpt.com
(٢) منظمة إرادة توثق 1969 حالة إخفاء قسري بينها 203 نساء في معتقلات الحوثي السرية، عدن اوبزيرفر، ١٠ أكتوبر ٢٠٢٥، https://www.adenobserver.com/منظمةإرادة-توثق-1969-حالة-إخفاء-قسري-بينه/122669/
(٣) Yemen: Huthis must immediately release prominent human rights lawyer and cease relentless crackdown on civic space ، Amnesty International، 1 October 2025، https://h1.nu/1hkUm
The stated views express the views of the author and do not necessarily reflect the views of the Center or the work team.
Comments