عقوبات خانقة: كيف تُعيد أمريكا تشكيل القطاع المصرفي اليمني
- 17 مايو 2025
في سياق تصعيد الضغوط الاقتصادية والعسكرية على جماعة الحوثيين، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات جديدة على مؤسسات مالية يمنية طالت هذه المرة بنك اليمن الدولي، ضمن استراتيجية شاملة تهدف إلى تقليص قدرة الجماعة على الوصول إلى النظام المالي الدولي، وتعطيل شبكاتها المالية التي تسهم في تعزيز قدراتها العسكرية وتهديدها للملاحة الدولية.
تأتي هذه العقوبات بعد اتهامات للبنك بمساعدة الحوثيين في استخدام نظام السويفت الدولي، ورفضه تزويد البنك المركزي اليمني في عدن - المعترف به دولياً - بالمعلومات المطلوبة، كما اتُّهم البنك بخضوعه لتوجيهات جماعة الحوثيين، وتسهيل عمليات شرائها للنفط، والالتفاف على العقوبات الأمريكية، فضلاً عن مساعدة الحوثيين في حشد الموارد ومصادرة أصول المعارضين لها.
طبقا لوزارة الخزانة الأمريكية فإن هذه الإجراءات، تهدف بشكل أكبر إلى الحد من وصول الحوثيين إلى القطاع المصرفي اليمني واستغلالهم له، كما تؤكد دعم وزارة الخزانة الأمريكية لسيادة الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً على النظام المصرفي في البلاد.
هذه الخطوة تعد استمراراً لنهج أمريكي متصاعد في المراقبة على المؤسسات المالية اليمنية، خاصة في مناطق سيطرة الحوثيين، حيث سبق وأن فرضت عقوبات مماثلة على بنك اليمن والكويت أحد أكبر البنوك التجارية في اليمن، في يناير من هذا العام.
هذه التطورات المتسارعة تكشف عن حجم التحديات البنيوية التي يواجهها القطاع المصرفي اليمني، وسط انقسام مؤسسي حاد وتراجع في الأداء المالي للبنوك، جراء الانقسام المالي الذي أحدثته جماعة الحوثيين، مما يفاقم من مخاطر التعثر المالي.
يهدف هذا التقدير إلى تقييم تأثير العقوبات على بنك اليمن الدولي، واستشراف تداعياتها على القطاع المصرفي اليمني، مع الأخذ في الاعتبار السياقين الاقتصادي والإنساني.
أسباب ودوافع العقوبات على القطاع المصرفي
تُعد العقوبات المفروضة على القطاع المصرفي اليمني جزءاً من استراتيجية أمريكية شاملة، تهدف إلى تحجيم دور جماعة الحوثيين، وتقويض قدرتها على استغلال النظام المالي في تمويل أنشطتها السياسية والعسكرية. تستند هذه العقوبات إلى قرار الإدارة الأمريكية بتصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية، ويتم تحديد المؤسسات المستهدفة بالعقوبات بناء على جملة من الأسباب التي تتداخل فيها الأبعاد الاقتصادية، السياسية، والأمنية، ويمكن تلخيصها على النحو التالي:
أولاً، خضوع عدد من البنوك والمؤسسات المالية لسيطرة جماعة الحوثي، ما جعلها أدوات مباشرة في تمويل عمليات الجماعة، بما في ذلك شراء الأسلحة والوقود وتجنيد المقاتلين، وهو ما يتعارض مع قوانين الخزانة الأمريكية بعد تصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية، أو/و مع القرارات الأممية والعقوبات الدولية المفروضة على اليمن سابقا.
ثانياً، استخدام النظام المصرفي في التحايل على العقوبات الأمريكية، من خلال شبكات تحويلات مالية دولية تُدار بطرق غير شفافة، تشمل استخدام شركات واجهة وشخصيات وسيطة لتسهيل المعاملات التي تخدم الجماعة وتوفر لها موارد مالية ضخمة.
ثالثاً، تعطيل العمل المؤسسي للبنك المركزي اليمني المعترف به دولياً في الرقابة على التعاملات المالية وعمليات غسيل الأموال ومكافحة الإرهاب، من خلال منع البنوك الواقعة في مناطق سيطرة الحوثيين من مشاركة البيانات المالية، أو الالتزام بسياسات نقدية موحّدة، ما ساهم في تفاقم الانقسام النقدي والمالي في البلاد.
رابعاً، تأثير مباشر على الملاحة الدولية والتجارة الإقليمية، إذ أن استمرار الجماعة في تهديد خطوط الشحن العالمية خلق دافعاً دولياً لتجفيف مصادر تمويلها، بما في ذلك تلك التي تمر عبر القطاع المصرفي اليمني.
واقع القطاع المصرفي
لفهم التطورات الحالية في القطاع المصرفي اليمني، لا بد من العودة إلى جذور الانقسام النقدي والمؤسسي الذي أفرزته الحرب المستمرة منذ قرابة عقد من الزمن عند نقل الحكومة المعترف بها دوليا البنك المركزي اليمني إلى عدن (2016)، خصوصاً منذ أواخر عام 2019، حين قررت جماعة الحوثي حظر تداول الطبعة الجديدة من العملة الوطنية الصادرة عن الحكومة في مناطق سيطرتها. ذلك القرار شكل نقطة تحول حاسمة في تكريس الانقسام النقدي، وأدى إلى ازدواج السياسات المصرفية، ودخول البلاد في حرب نقدية مفتوحة، انعكست بوضوح على شكل تدهور قيمة الريال اليمني، وتفاقم أزمة السيولة، وتعقيد عمل القطاع المصرفي الذي أصبح أسيراً للتجزئة والتشظي.
قبل قرار نقل مقر البنك المركزي اليمني إلى عدن (2016)، كانت مقرات البنوك والمصارف وأغلب مؤسسات الصرافة متمركزة في صنعاء، ومع استمرار سيطرة جماعة الحوثيين على صنعاء، أتاحت هذه السيطرة للجماعة فرض نفوذ واسع على القطاع البنكي، ومحاولة استخدامه كأداة لتمرير تسهيلات مالية والالتفاف على القوانين المنظمة للعمل المصرفي محلياً ودولياً. أغلب البنوك التجارية والإسلامية المؤسسة قبل 2016، لا تزال تعمل من صنعاء حتى الآن، وهو ما جعلها خاضعة بشكل مباشر لتأثير السياسات الحوثية بعد الانقلاب.
من ناحية أخرى، وبعد نقل البنك المركزي اليمني إلى عدن عام 2016، بدأت الحكومة المعترف بها دولياً في بناء منظومة مالية جديدة، تمثلت في تأسيس عدد من المصارف والبنوك، معظمها بنوك إسلامية للتمويل الأصغر. هذا التحول جاء نتيجة لضغوط البنك المركزي في عدن، الذي ألزم شركات الصرافة بعدم قبول الودائع المالية، ما دفع هذه الشركات للتحول إلى بنوك صغيرة. كما ارتبط هذا التوجه برغبة السلطات النقدية في تنظيم سوق الصرف، وتقليص السوق السوداء التي تفشت مع بدايات الحرب.
بلغ عدد البنوك المرخصة من قبل البنك المركزي اليمني في عدن خلال فترة الحرب، حوالي 11 بنكاً، التزمت بتعليمات البنك المركزي، عبر تنفيذ سياسات نقدية، على النقيض من تلك السياسات التي تفرضها سلطات الحوثيين على بقية القطاع البنكي القديم في صنعاء.
إضافة إلى هذا الانقسام الذي شهده القطاع المصرفي، أدت مختلف الضغوطات والأجندات السياسية والاقتصادية، إلى إضعاف القطاع المصرفي، مع تراجع الثقة العامة، وصعوبات في الوصول إلى النظام المالي العالمي، ومراسلة البنوك الإقليمية والدولية خارج البلد.
إن قراءة واقع القطاع المصرفي في ظل هذه الانقسامات، وضعف أنشطة البنوك والمصارف، وتراجع القدرات البنكية على جذب السيولة، تجعل من الصعب فصل هذا الواقع عن التوجهات الدولية المتزايدة لإعادة تمكين الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، من السيطرة على المنظومة النقدية بشكل يعزز الرقابة على التعاملات المالية والتزامها بمحافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، وهو ما يفسر إلى حد كبير العقوبات الأخيرة التي فرضتها وزارة الخزانة الأمريكية على بنوك تعمل من صنعاء، ضمن مساعٍ لتعطيل الشبكات المالية المرتبطة بجماعة الحوثيين، وتجفيف منابع تمويلها.
مع ذلك، فإن إعادة تشكيل واقع القطاع المصرفي اليمني لا يمكن تحقيقها عبر العقوبات فقط، بل تتطلب رؤية إصلاحية شاملة تتضمن إنهاء حالة الانقسام النقدي، وتوحيد السياسات المالية، واستعادة الثقة بالقطاع المصرفي الرسمي كرافعة لتعافي الاقتصاد الوطني.
استفحال الأزمة المصرفية في اليمن
يواجه القطاع المصرفي في اليمن تحديات متفاقمة، حيث تتعرض البنوك التجارية لضغوط وقيود خانقة، أبرزها شح السيولة وعجزها عن الوفاء بالتزاماتها تجاه العملاء والمودعين. وتعود جذور هذه الأزمة إلى جملة من العوامل المركبة، أبرزها الانقسام النقدي وتدهور بيئة الاستثمار المالي، فضلًا عن تدخلات مباشرة من سلطات الحوثيين في صنعاء.
يُعد بنك اليمن الدولي من أبرز الأمثلة على حجم الأزمة، حيث شهد مقره الرئيسي في صنعاء خلال مايو 2024، احتجاجات واسعة من قبل مئات المودعين، بعد عجزهم عن سحب أموالهم المحتجزة، ما يعكس حالة الانهيار الفعلي في قدرة البنك على الوفاء بالتزاماته.
تعود أزمة السيولة في البنوك اليمنية إلى حرمانها من عوائد استثماراتها في أدوات الدين العام، المودعة سابقًا لدى البنك المركزي بصنعاء، الذي تسيطر عليه جماعة الحوثيين، فقد امتنعت سلطات صنعاء عن صرف هذه العوائد، بعد تشريعها قانونا جديدا لمنع التعاملات الربوية، ما تسبب في تعميق الفجوة بين حجم السيولة المتاحة لدى البنوك، وحجم التزاماتها المتراكمة، مؤديًا إلى تآكل الثقة الشعبية في الجهاز المصرفي برمّته.
في ظل هذا الواقع، تفرض جماعة الحوثيين هيمنة صارمة على القطاع البنكي، مستغلة إياه لخدمة أجندات تتعارض مع مبادئ النظام المالي العالمي، وقد جاءت العقوبات الأمريكية الأخيرة على بنك اليمن الدولي، وقبل ذلك بنك اليمن والكويت، بمثابة ضربة قاصمة لأنشطة هذه المؤسسات، وتهديد مباشر لبقية مكونات القطاع البنكي المتواجدة بصنعاء.
يمكن تلخيص أبرز تداعيات وانعكاسات العقوبات الأمريكية، بالتالي:
عقوبات وعزلة دولية
قد تواجه البنوك التقليدية التي لا تزال تحتفظ بمراكزها الرئيسية في صنعاء، نفس المصير إذا لم تُبادر سريعاً إلى تصحيح أوضاعها. مع تضاؤل خياراتها، يبقى الخيار الأكثر أماناً هو الامتثال لتوجيهات البنك المركزي اليمني بعدن، والعمل على رفع مستويات الشفافية، وتطبيق المعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
من أبرز التأثيرات المتوقعة في حال شمول العقوبات بنوك أخرى:
التحديات الإنسانية
من أبرز التحديات التي تواجه البلاد في الوقت الراهن – سواء على الصعيد الاقتصادي أو العسكري أو السياسي – تدهور الوضع الإنساني وانعدام الأمن الغذائي، لاسيما مع انخفاض الإنتاج الزراعي من الحبوب والمحاصيل الأخرى، وتزايد الاعتماد على الاستيراد لتلبية الاحتياجات الغذائية الأساسية للسكان.
أشارت تقارير دولية عديدة إلى أن التدهور الحاد في الأوضاع الإنسانية باليمن أدى إلى تضاعف عدد الأشخاص المحتاجين إلى تدخلات إغاثية، حيث يُقدّر عددهم بنحو 17 مليون شخص يواجهون انعداماً حاداً في الأمن الغذائي، وسط انتشار واسع لحالات سوء التغذية.
يتزامن هذا التدهور الإنساني مع أزمة اقتصادية خانقة، حيث شهد العام 2024، انكماشاً في الناتج المحلي الإجمالي وتراجعاً في الإيرادات الحكومية، نتيجة الانهيار الكبير في قيمة الريال اليمني، وتوقف صادرات النفط، ومحدودية التمويل الخارجي، إلى جانب ارتفاع معدلات التضخم.
أما الضغوط الاقتصادية والمالية المتزايدة على جماعة الحوثي، فلا يمكن فصلها عن الصورة العامة للوضع الإنساني، ما يتطلب وضع استراتيجية شاملة لإصلاح الاختلالات، ومعالجة المشكلات الاقتصادية، وتلافي حدوث أي آثار أو أضرار إنسانية، بسبب الإجراءات الأخيرة المفروضة من قبل الإدارة الأمريكية، ويجب أن تضمن هذه الاستراتيجية تعزيز دور الحكومة الشرعية من مختلف الجوانب، أهمها الجانب الاقتصادي، وتمكينها من كافة مواردها، عبر تفعيل الإنتاج، ورفع كفاءة التحصيل، وتسهيل عملية التجارة الخارجية، دون عوائق.
خاتمة
في ظل التدهور الإنساني الحاد الذي تشهده البلاد، من الضروري أن يُصاغ أي تدخل اقتصادي أو سياسي وفق مقاربة متوازنة تراعي خصوصية السياق الإنساني اليمني، فالهدف يجب ألا يكون فقط إضعاف جماعة الحوثيين اقتصادياً، بل تمكين الحكومة الشرعية من استعادة زمام المبادرة، وتنشيط الاقتصاد العام، وتخفيف المعاناة المتفاقمة التي تطال ملايين المواطنين.
إن إصلاح القطاع المصرفي يشكل ركيزة أساسية، ولا يمكن فصله عن المسارات السياسية والأمنية والإنسانية الأوسع. بالتالي، فإن نجاح المجتمع الدولي والحكومة الشرعية في إدارة هذا الملف، سيحدد إلى حد كبير شكل المستقبل الاقتصادي لليمن.
يعاني المشهد المصرفي في اليمن حالة غير مسبوقة من الانقسام، والتعقيد، وسط بيئة مالية مشحونة بالتحديات والمخاطر. وبينما تمثل العقوبات الأمريكية خطوة جادة في سبيل تقويض النفوذ المالي لجماعة الحوثيين، إلا أن نجاح هذه الاستراتيجية لا يمكن أن يُختزل في البُعد العقابي فقط.
إن العقوبات، مهما بلغت قوتها، تظل أداة مؤقتة ما لم تُرفَد بـرؤية إصلاحية شاملة تضع في الاعتبار الأولويات التالية:
إخلاء للمسئولية: تعبّر وجهات النظر المذكورة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المركز أو فريق العمل.
التعليقات