تنسيم البالون: تحولات سعر صرف الريال اليمني خلال أغسطس 2025
- 15 Sep 2025
شهد الريال اليمني خلال الأسابيع الماضية تحولاً دراماتيكياً، إذ انحدر سريعًا إلى مستويات قياسية غير مسبوقة قبل أن يعاود التعافي بصورة مفاجئة، بفعل سلسلة من التدخلات الحكومية والإجراءات النقدية الصارمة. رغم أن الجهات الرسمية سارعت لنسبة هذا التحسّن إلى جهودها المباشرة في استعادة الثقة وكبح التضخم، إلا أن ما جرى يتجاوز التفسير السطحي، فهو يكشف عن تداخل معقّد بين عوامل اقتصادية، وبنيوية، وإدارية، وسياسية.
تنبع أهمية مقاربة هذه التطورات من أثرها المباشر على معيشة المواطنين، وعلى بنية الاقتصاد الوطني واستقرار السوق النقدية، إذ يظل سعر الصرف المحدّد الأكثر حساسية في تشكيل أسعار السلع الأساسية ومستويات التضخم، وبالتالي في صياغة المزاج الاجتماعي والسياسي العام. يأتي تقدير الموقف هذا لتحليل التحولات الأخيرة في سعر الصرف، وقراءة العوامل التي قادت إلى التحسّن، واستجلاء انعكاساته الاقتصادية والاجتماعية، ثم تفحّص التحديات التي تهدد استدامته، قبل الانتقال إلى رسم السيناريوهات الممكنة لمسار العملة في المدى القريب والمتوسط، وصولًا إلى خلاصات وتوصيات عملية موجّهة لصنّاع القرار المعنيين بإدارة هذا الملف الحساس.
أولًا: أسباب التحسن
لا يمكن تفسير التحسّن الأخير في سعر صرف الريال اليمني دون المرور بمسار التدهور الذي سبقه، فعلى الصعيد الاقتصادي، أدّى توقف تصدير النفط وشحّ تدفقات العملة الصعبة إلى ضغوط متزايدة على الريال، ما أسفر عن تراجع مستمر في قيمته؛ وترافق ذلك مع نشاط مضاربة مكثّف قاده صرّافون غير منضبطين ومضاربون آخرون، سعوا إلى تحقيق أرباح سريعة عبر رفع أسعار العملات الأجنبية إلى مستويات غير واقعية؛ وكانت نتيجة هذا التداخل أن وصل سعر الصرف في مناطق الحكومة الشرعية إلى نحو 760 ريالًا يمنيًا مقابل الريال السعودي بنهاية يوليو، وهو مستوى مثّل ارتفاعًا مبالغًا فيه وغير مبرّر ولا يستند إلى أسس اقتصادية متينة.
كبالون هواء يُنفخ من أطراف عدة، وبدون ضوابط، كان لا بد من تنسيمه بحكمة أو انتظار انفجاره، كان الخيار الأول بحاجة إلى محفّز خارجي يغيّر مسار السوق ويدفع الأسعار نحو التوازن؛ وقد جاء هذا المحفّز عبر حزمة إجراءات احترازية وتنظيمية تبنّاها البنك المركزي بعدن والحكومة اليمنية، استهدفت الإجراءات كبح المضاربات وإعادة الانضباط إلى السوق؛ وشملت إغلاق شركات ومحلات صرافة مخالفة، وتشديد الرقابة على النشاط، وتقنين التعامل بالنقد الأجنبي للحد من المضاربات خارج الجهاز المصرفي، فضلًا عن تشكيل لجنة وطنية لتنظيم وتمويل الاستيراد، لضبط الطلب على العملات الصعبة؛ وقد عزّز هذه التدابير دعمٌ سياسي مباشر من مجلس القيادة الرئاسي والحكومة والسلطات المحلية (١)، ما منحها قوة تنفيذية مكّنتها من تغيير اتجاه السوق بسرعة.
بهذا التدخّل الحازم عاد البالون إلى حجمه الآمن نسبيا(٢)، لينهار السعر المرتفع في غضون أيام قليلة من 760 إلى حدود 425–428 ريالًا يمنيًا للريال السعودي، مطلع أغسطس؛ وبذلك استعاد الريال أكثر من 40% من قيمته، في واحدة من أسرع موجات التعافي التي شهدها تاريخه الحديث.
ثانيًا: الأثر الاقتصادي والاجتماعي
أفضى التحسّن السريع في سعر صرف الريال اليمني إلى نتائج متباينة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي؛ فمن جهة، انعكس ارتفاع قيمة العملة الوطنية إيجابًا على أسعار السلع المستوردة، وفي مقدمتها المواد الغذائية الأساسية والمشتقات النفطية، وهو ما وفّر هامش ارتياح نسبي للمستهلكين وساهم في كبح جماح التضخم المتصاعد(٣)؛ كما ولّد استقرار السوق النقدية موجة تفاؤل شعبي، عزّزت الثقة في إمكانية وقف التدهور المستمر للقدرة الشرائية؛ وقد تحوّلت هذه المكاسب الاقتصادية إلى رصيد سياسي للحكومة والبنك المركزي(٤)، إذ عُدّ نجاح الإجراءات النقدية والرقابية إنجازًا عزّز موقفهما أمام الشارع والقوى الداعمة؛ وإلى جانب ذلك، أسهم تضييق الفجوة بين سعر الصرف في المناطق الحكومية وتلك الخاضعة للحوثيين في إضعاف قدرة الأخيرة على استغلال العملة كسلاح اقتصادي، وهو ما شكّل مكسبًا استراتيجيًا للحكومة، عبر الحد من موارد الحوثيين المالية المتأتية من هذا التباين.
بالمقابل، حمل هذا التحسّن معه كلفة ملموسة على شرائح أخرى؛ فالأسر المعتمدة على تحويلات المغتربين – وهي تمثل نسبة كبيرة من السكان – وجدت نفسها متضررة بانخفاض قيمة الدولار المحوّل إلى الداخل، إذ بات يعادل كميات أقل من الريالات، ما قلّص قدرتها الشرائية مباشرة؛ كما لم يستفد معظم الموظفين والمتعاملين بالريال المحلي من تحسّن العملة بالدرجة المتوقعة، نظرًا لاستمرار أسعار عدد من السلع عند مستويات مرتفعة، مدفوعة بجشع بعض التجار وضعف فعالية الرقابة؛ وعلى صعيد المالية العامة، أدى ارتفاع قيمة الريال إلى تراجع الإيرادات المقوّمة بالعملة المحلية، إذ إن أي موارد للحكومة بالعملات الأجنبية – سواء مساعدات أو مبيعات نفطية محدودة – باتت عند تحويلها إلى الريال أقل قيمة مما كانت عليه سابقًا، الأمر الذي يفاقم عجز الموازنة ويقيّد القدرة على الإنفاق العام.
كشف هذا التباين بين تحسّن سعر العملة ومحدودية انعكاسه على الأسعار الفعلية، أن الاستقرار النقدي وحده غير كافٍ لتحقيق مكاسب اجتماعية ملموسة، حيث أن ضمان استفادة المواطنين من التحسّن يتطلّب رقابة صارمة وفعّالة على الأسواق، تحول دون تراكم الأرباح الاحتكارية لدى بعض التجار، وتضمن تمرير المنافع مباشرة إلى المستهلك.
ثالثًا: التحديات والتهديدات
رغم التحسّن السريع في سعر صرف الريال وما ترتب عليه من مكاسب، فإن استدامة هذا الاستقرار تظل هشّة ومحاطة بجملة من التحديات والتهديدات التي تضغط على السوق النقدية من عدة اتجاهات:
رابعًا: السيناريوهات المحتملة
انطلاقًا من المعطيات الراهنة، يمكن استشراف أربعة مسارات رئيسية لسعر صرف الريال اليمني خلال الأشهر القادمة وعلى المدى المتوسط:
النتائج والتوصيات
برهنت تجربة أغسطس 2025، على أن الإرادة السياسية والإجراءات الحازمة قادرة على كبح تدهور العملة وإعادة قدر من الاستقرار إلى السوق، إذ كان للتحرك المتزامن للحكومة والبنك المركزي دور حاسم في تنسيم بالون المضاربة واستعادة الثقة؛ كما أن تثبيت سعر الصرف ضمن نطاق شبه ثابت (425–428 ريال/ريال سعودي) وإنهاء حالة التعويم المطلق يعكس تبني نهج جديد أكثر واقعية وتحكمًا في إدارة السياسة النقدية.
في الوقت نفسه، أبرزت التجربة أن الاستقرار الراهن لا يزال هشًا ومعرّضًا للانتكاس إذا لم يواكب بإصلاحات هيكلية أشمل؛ وفي هذا الإطار، يقدّم الباحث التوصيات التالية لصنّاع القرار:
ختامًا: يمنح التحسّن الأخير للريال فرصة نادرة لإعادة ترتيب البيت الاقتصادي، لكنه يضع السلطات أمام اختبار صعب في تحويل هذا النجاح التكتيكي إلى استقرار استراتيجي طويل الأمد؛ الشفافية، الاستمرار في الإصلاح، وتعزيز الثقة بين الدولة والمجتمع هي مفاتيح العبور إلى بر الأمان المالي؛ ومن دون معالجة جذرية للاختلالات الاقتصادية، سيبقى التعافي مؤقتًا وعرضة للانتكاس.
(1) sanaacenter.org تاريخ الاطلاع: 27/08/2025.
(٢) khabaragency.net تاريخ الاطلاع: 27/08/2025.
(٣) yemenonline.info تاريخ الاطلاع: 27/08/2025.
(٤) khabaragency.net تاريخ الاطلاع: 27/08/2025.
(٥) sanaacenter.org تاريخ الاطلاع: 27/08/2025.
(٦) sanaacenter.orgsanaacenter.org تاريخ الاطلاع: 27/08/2025.
(٧) epc.ae تاريخ الاطلاع: 27/08/2025.
The stated views express the views of the author and do not necessarily reflect the views of the Center or the work team.
Comments