هندسة النفوذ: كيف يُعيد التقارب الأمريكي الروسي رسم خريطة الشرق الأوسط
- 06 Apr 2025
لطالما شكل الشرق الأوسط مسرحاً للتنافس الدولي بين القوى العظمى، ولكن مع تغير المعادلات الجيوسياسية، باتت التحالفات التقليدية موضع مراجعة وإعادة تشكيل. في هذا السياق، يُمكننا استعارة مفهوم “تأثير الفراشة” من علم الفوضى لفهم كيف أن تقارباً دبلوماسياً بين واشنطن وموسكو قد بدأ ينعكس بتغييرات عميقة في المشهد الإقليمي. فرفرفة الأجنحة في العواصم الكبرى تولد عواصف في طهران وصنعاء وبيروت، ما يُعيد رسم خريطة التحالفات والصراعات في المنطقة.
صفقة ترامب الكبرى: مقايضة المصالح
منذ عودته إلى البيت الأبيض في يناير 2025، وضع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ثلاث أولويات رئيسية على أجندة سياسته الخارجية: “غزة، أوكرانيا، وإيران”. وقد تبنى مقاربة قائمة على منطق المعاملات والمقايضات، حيث يسعى لتبادل المصالح بين القوى الكبرى بشكل مباشر:
أوكرانيا: عبر ممارسة ضغوط على كييف وأوروبا، يساعد ترامب روسيا على إنهاء الحرب لصالحها.
إيران: في المقابل، تمارس موسكو نفوذها على طهران لإجبارها على تقديم تنازلات في ملفها النووي ونفوذها الإقليمي.
إسرائيل: يمنحها ترامب دعماً غير مشروط، لكنه يطالبها بالالتزام باستراتيجيته وعدم ارتجال قرارات قد تعرقل مسار الصفقة.
هذه المعادلة البراغماتية تمثل جوهر “صفقة القرن الجديدة” التي يسعى ترامب لتحقيقها، والتي تقوم على إعادة توزيع النفوذ الإقليمي وفق معايير الربح والخسارة المباشرة، بعيداً عن الأيديولوجيا والشعارات التقليدية.
موسكو تضغط على طهران: بوادر النجاح الأولى
حتى الآن، يبدو أن استراتيجية ترامب قد بدأت تؤتي ثمارها، فقد بادرت موسكو إلى عرض وساطتها مع طهران بخصوص الملف النووي. لكن المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان أبديا تحفظاً على هذا العرض، في مؤشر على ارتباك داخل الدوائر الحاكمة في إيران.
وتشير التقارير إلى أن موسكو تمارس ضغوطاً على صانع القرار الإيراني، كما يفعل ترامب مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. هذا التنسيق غير المعلن بين واشنطن وموسكو يمثل تحولاً جذرياً في التوازنات الدولية، ويضع إيران في وضع غير مألوف.
الاضطراب الداخلي: صراع أجنحة السلطة في إيران
يبدو أن الضغوط الخارجية بدأت تتجلى في شكل أزمة داخلية داخل إيران، حيث احتدم الصراع بين جناحين رئيسيين:
1. التيار الإصلاحي المعتدل: يسعى لتخفيف التوتر عبر القنوات الدبلوماسية وتقديم تنازلات محدودة.
2. الحرس الثوري والمتشددون: يرون في التصعيد الإقليمي خياراً استراتيجياً للحفاظ على نفوذهم وتعزيز موقعهم التفاوضي.
هذا الصراع انعكس عملياً في الإطاحة ببعض الشخصيات الإصلاحية مثل محمد جواد ظريف وعبد الناصر همتي، ما يشير إلى ميلان الكفة لصالح المتشددين الذين يفضلون التصعيد.
انعكاسات إقليمية: الحوثيون في واجهة المشهد
لم يتأخر صدى هذه التغييرات في الوصول إلى حلفاء طهران الإقليميين، وكان الحوثيون في اليمن أول من استجاب للمتغيرات الجديدة. ففي تحول مفاجئ، هدد زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي بمنح إسرائيل مهلة أربعة أيام لفك الحصار عن غزة، وإلا فسيتم استهداف الملاحة البحرية الدولية.
هذا التصعيد يعكس استراتيجية الحرس الثوري في محاولة استعادة زمام المبادرة الإقليمية، بعدما تعرض محور المقاومة لنكسات متتالية في سوريا ولبنان. ويبدو أن اليمن بات الساحة الأكثر ملاءمة لهذا التصعيد نظراً لانخفاض تكلفته السياسية والعسكرية مقارنة بجبهات أخرى.
معضلة طهران: بين خيارين أحلاهما مر
القيادة الإيرانية تجد نفسها أمام معضلة استراتيجية شائكة:
تلاقي المصالح: عندما يتفق الأعداء
بشكل مفارِق، يجد الحرس الثوري نفسه في موقف متقاطع مع إسرائيل، حيث يفضل الطرفان سيناريو التصعيد العسكري. فبينما ترى تل أبيب في تصعيد الحوثيين فرصة لاستئناف حربها ضد غزة، يعتبر الحرس الثوري أن تصعيد الجبهات الإقليمية قد يعزز موقفه داخلياً ويؤخر أي تهديد وجودي لنظام ولاية الفقيه.
إلا أن التصعيد المحسوب لن يغير من المعادلة الكبرى، فإيران اليوم ليست بالقوة التي كانت عليها قبل سنوات، ومحور المقاومة يواجه تحديات غير مسبوقة تجعل من المغامرات العسكرية خياراً محفوفاً بالمخاطر.
الخاتمة
في نهاية المطاف، يبدو أن التقارب الأمريكي الروسي قد فرض واقعاً جديداً على الشرق الأوسط، حيث وجدت إيران نفسها لأول مرة محاصرة دبلوماسياً من حلفائها قبل أعدائها. ومع استمرار التحولات، يُعاد تشكيل موازين القوى الإقليمية على أسس براغماتية جديدة.
ما يجري اليوم ليس مجرد تعديل في التكتيكات، بل إعادة رسم لخريطة الشرق الأوسط وفق منطق الصفقات الكبرى، حيث تحل المصالح المصلحية محل الولاءات التقليدية، مما يفتح الباب أمام تغييرات جذرية قد ترسم مستقبل المنطقة لعقود قادمة.
The stated views express the views of the author and do not necessarily reflect the views of the Center or the work team.
Comments