خريطة الاشباح: هل تنجح واشنطن في فك لغز المنظومة الأمنية الحوثية؟
- 28 Mar 2025
في مشهد استراتيجي معقد، تواجه الولايات المتحدة تحدياً غير مسبوق في اختراق الحصن الحوثي.. فعندما أعلنت عن عملياتها العسكرية المباشرة، برز سؤال جوهري: هل تمتلك القدرات الاستخباراتية والعسكرية اللازمة لاستهداف القيادات الحوثية بدقة وفعالية؟
إن التاريخ الاستخباراتي الأمريكي حافل بإنجازات "اصطياد قادة الارهاب" من أسامة بن لادن إلى أبو بكر البغدادي، ومن ناصر الوحيشي إلى قاسم سليماني. لكن الحوثيين يمثلون معضلة استراتيجية فريدة. فرغم عقد كامل من الحرب الضروس وآلاف الضربات الجوية، يواصل عبد الملك الحوثي وقيادات الصف الأول للجماعة -المدرجة على قوائم الإرهاب- لعبة التخفي والمناورة بمهارة استثنائية.
على مدى عقدين، بنى الحوثيون منظومة أمنية معقدة تجمع بين الأساليب التقليدية والتكنولوجيا الحديثة، وتعتمد على عدة مستويات من الحماية والتنصت والمراقبة. فالجماعة تجاوزت مرحلة الميليشيا السرية لتتحول إلى كيان شبه دولتي، يمتلك أذرعاً أمنية واستخباراتية قادرة على إحباط أي محاولات اختراق.
ومع توالي الضربات الأمريكية وبالتحديد في صعدة وصنعاء، يبقى السؤال المحوري معلقاً؛ هل نجحت واشنطن في وضع استراتيجية فعالة لتفكيك المنظومة الأمنية الحوثية، أم أن الجماعة ستثبت مرة أخرى قدرتها على تجاوز العاصفة كما فعلت على مدار السنوات الماضية؟
تشريح المنظومة الأمنية الحوثية: استراتيجيات حماية القادة
تبرز المنظومة الأمنية للحوثيين كحالة فريدة تستحق المزيد من الدراسة والاستقصاء.. فبينما تتهاوى الأنظمة الأمنية للجماعات الإرهابية في المنطقة كالقاعدة وداعش تحت ضربات التكنولوجيا الحديثة، تمكن الحوثيون من بناء نظام حماية متعدد الطبقات، يجمع ببراعة بين البدائية والتطور، بين العرف القبلي والتقنيات الحديثة، وبين العزلة المحلية والدعم الإيراني الدولي. هذه المنظومة ليست مجرد أدوات حماية عادية، بل هي نظام متكامل تطور عبر سنوات من المواجهة، ليصبح اليوم التحدي الأكبر للاستخبارات الدولية في المنطقة.
أولاً: جيوبولتيك الاختفاء: الحصون الجبلية: في قلب التضاريس الوعرة لشمال اليمن، يكمن سر نجاة القيادة الحوثية من الاستهداف. تتحول سلاسل جبال صعدة وعمران وحجة إلى مختبر طبيعي للتخفي والتمركز والمناورة، حيث تتحول الصخور والوديان إلى شبكة معقدة من الملاجئ والأنفاق الاستراتيجية. هذه الجغرافيا الوعرة ليست مجرد حاجز طبيعي، بل منظومة دفاعية متكاملة تتحدى أحدث التقنيات الاستخباراتية والعسكرية.
يمتد شبح التحصين الحوثي عبر شبكة معقدة من المواقع السرية، وبحسب التقارير، يوجد أكثر من 500 موقع تحت الأرض، مع أنفاق وملاجئ محصنة على عمق يصل إلى 20 متراً، كل متر مربع من هذه الجبال يحمل قصة اختباء، حيث تتحول الصخور إلى متاهات تحمي قادة الجماعة من أعين الاستخبارات.
ثانياً: الرقمنة الأمنية والسيطرة على الاتصالات: على صعيد البنية التحتية الاتصالية، سيطر الحوثيون بشكل كامل على شركة "تليمن" وشبكات الهاتف النقال المتواجدة في العاصمة صنعاء، مما منحهم القدرة على التحكم الشامل في المعلومات والاتصالات. وقد استفادوا من الدعم الإيراني في توفير أدوات اتصال مشفرة ومتطورة للغاية، جعلت من الصعب على الاستخبارات الأجنبية اختراق شبكاتهم. وقد مكّنهم ذلك من تنفيذ عمليات تجسس واسعة النطاق على المواطنين والمسؤولين، بالإضافة إلى التحكم في تدفق المعلومات. أنظمة التشفير المستوردة من إيران، ووحدة "الدرع السيبراني"، وشبكات التنصت المعقدة تشكل جداراً إلكترونياً يصعب اختراقه. بالإضافة الى أن الجماعة تستند إلى منظومة متكاملة من التقنيات الإلكترونية المتطورة، أبرزها:
أنظمة التشفير الإيرانية: اعتمدوا على نظام "فاتم" المشابه للأنظمة التي يستخدمها حزب الله اللبناني، والذي يوفر تشفيراً معقداً يصعب اختراقه.
وحدة "الدرع السيبراني": أنشأوا وحدة متخصصة مسؤولة عن رصد المحادثات واعتراض الاتصالات، مما منحهم قدرة شبه مطلقة على المراقبة الأمنية.
الخلايا الإلكترونية للتنصت: طوروا شبكة متطورة للتجسس بالتعاون مع خبراء من الحرس الثوري الإيراني، تمكنهم من:
ثالثاً: نظام مكافحة التجسس الوحشي: طور الحوثيون نظام مكافحة تجسس يوصف بأنه من الأكثر قسوة، فهم لا يترددون في محاكمة أو إعدام من يُشتبه بتعاونهم مع الخصوم، وأنشأوا وحدات إلكترونية متخصصة لمراقبة المكالمات والرسائل بدقة عالية، وشبكة من المخبرين منتشرة على مستوى القرى والعزل والمديريات والمحافظات، كما أن المحاكمات السريعة تخلق مناخاً من الرعب يمنع أي محاولة للاختراق.
هذه المنظومة الأمنية ليست مجرد تكتيكات دفاعية، بل استراتيجية متكاملة تجمع بين الجغرافيا والتكنولوجيا والعنف المنظم. كل خيط في هذه الشبكة المعقدة يهدف لحماية القيادة، وكل تفصيل مصمم لجعل استهداف قادة الحوثيين تحدياً يكاد يكون مستحيلاً.
المحاولات الأمريكية.. بين الضربات الجوية والفشل الاستخباري
منذ بدء استهداف الحوثيين في اليمن، نفذ التحالف العربي والولايات المتحدة آلاف الضربات الجوية، فشلت جميعها في اختراق المنظومة الأمنية باستثناء ضربة وحيدة استهدفت رئيس المجلس السياسي الأعلى صالح الصماط في ابريل ٢٠١٨ اثناء زيارة له لمحافظة الحديدة.
وتشير تقارير امنية أمريكية إلى أن واشنطن تواجه تحديات كبيرة في جمع المعلومات الدقيقة عن قيادات الحوثيين، نظراً لعدة عوامل:
غياب المصادر البشرية الموثوقة: انهيار شبكات التجسس التقليدية بعد سقوط صنعاء في 2014.
التخبط الاستراتيجي والتأخر في المواجهة: يعكس تعامل الولايات المتحدة مع الحوثيين قدراً من التخبط، حيث لم تتخذ موقفاً حازماً تجاههم إلا بعد استهدافهم للسفن الإسرائيلية في البحر الأحمر. هذا التأخر في المواجهة أسهم في خلق فجوة استخبارية كبيرة، جعلت واشنطن تفتقر إلى المعلومات الكافية حول تحركات الحوثيين واستراتيجياتهم، مما زاد من صعوبة التعامل معهم بفعالية.
الحرب الإلكترونية المضادة: تزييف بيانات الاتصالات عبر أنظمة تشويش إيرانية متطورة "إيكو".
استخدام الحوثيين للمدنيين كدروع بشرية: يعتمد الحوثيون تكتيكاً ذكياً في الاحتماء بالمباني المدنية، مثل المستشفيات والمدارس والمجمعات السكنية، الأمر الذي يجعل من الصعب استهدافهم دون وقوع خسائر بين المدنيين، مما قد يثير انتقادات دولية.
التكتم الشديد على تحركات القادة: تتبع قيادات الحوثيين إجراءات أمنية مشددة، مثل تغيير أماكن الإقامة باستمرار، والحد من التواصل الإلكتروني، والاعتماد على شبكة معقدة من الأنفاق والمخابئ السرية.
مسارات وآفاق المواجهات
قد تثمر الضربات الأميركية عن نتائج محدودة، خاصة فيما يتعلق بإضعاف القدرات العسكرية للحوثيين على المدى القصير. على الرغم من أن هذه الضربات قد تُسهم في تقليص فعالية بعض القوات أو تدمير بعض المنشآت اللوجستية الحيوية، فإن الوصول إلى أهداف ذات قيمة استراتيجية أكبر، مثل زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي، يبقى أمراً بالغ الصعوبة. يمثل الحوثي نفسه هدفاً محورياً ضمن الاستراتيجية الأميركية، حيث يعد زعيم الجماعة العنصر الأكثر تأثيراً في تنسيق العمليات العسكرية والدعائية، وهو ما يجعل استهدافه أمراً ذا أولوية بالنسبة لواشنطن. لكن في ظل التحصينات الأمنية وتطور أساليب التمويه والتخفي، من غير المرجح أن تحقق الضربات الأميركية نتائج حاسمة في هذا الإطار.
من ناحية أخرى، قد تُمثل قدرات الحوثيين على التكيف مع هذه الضربات تهديداً طويل الأمد للجهود العسكرية الأميركية. فالتحولات التكتيكية التي يفرضها الحوثيون قد تُمكنهم من التخفيف من الأثر الناتج عن هذه الضربات، مما قد يُطيل أمد الحملة العسكرية ويُعقّد عمليات الاستهداف المستقبلية. وقد يقوم الحوثيون بتطوير أساليب جديدة لمواجهة الضغوط العسكرية، مثل تغيير مواقعهم وتكثيف استخدام الأساليب الحربية غير التقليدية، مما يحد من قدرة الطيران الأميركي على تحقيق أهدافه بنجاح.
وفي حال لم تنجح الضربات الأميركية الحالية في إحداث تغيير كبير في سير المعركة، فإن واشنطن قد تتجه نحو تصعيد أكبر في عملياتها العسكرية. قد يشمل هذا التصعيد تنفيذ ضربات أكثر دقة وزيادة نطاق الهجمات.
وختاماً؛ تذكرنا الحالة الحوثية بلعبة "دمى ماتريوشكا" الروسية، حيث كلما ظن الأمريكيون أنهم اقتربوا من الهدف، يكتشفون طبقة أمنية جديدة. المنظومة الأمنية للجماعة صممت لتصمد أمام أعتى الجهود الاستخباراتية، وهي تستفيد من ثلاث ميزات نسبية: الجغرافيا الوعرة، التكنولوجيا المدعومة إيرانياً، والنسيج الاجتماعي المتماسك في المعاقل الرئيسية للجماعة. قد تنجح واشنطن في النهاية - كما تفعل دائماً مع الصبر والموارد اللامحدودة - لكن المؤشرات تقول إن الطريق إلى رأس زعيم الجماعة -عبد الملك الحوثي- سيكون أطول وأكثر وعورة مما توقع مخططو البنتاغون.
The stated views express the views of the author and do not necessarily reflect the views of the Center or the work team.
Comments